لندن وإدنبرة: نواة الحكاية
جلست زوجتي بالقرب مني ترسم لي طريق السفر، وتشجّعني على الذهاب إلى بريطانيا التي سبق لها أن زارتها في غير مرّة برفقة إحدى صديقاتها المقيمات في مدينة لندن منذ زمن بعيد.
شرحت لي بإسهاب أجواء تلك المدينة التي تعرفُ بمدينة الضباب لندرة ظهور الشمس فيها، فضلاً عن الازدحام الشديد الذي يلفّها ويعيشه الأهالي هناك، إلّا أن عاصمة الضباب، وعلى الرغم من الهيبة والاسم الذي نعرفه عنها، وعلى كثرة الإخوة العرب الذين يقضون إجازاتهم فيها وبصورة مستمرة، وطوال أيام السنة، تظل لها بهجتها ومكانتها وعنفوانها من بين العواصم الأوروبية.
الحالة التي رسمتها لي زوجتي ألزمتني بقبول الدعوة المجانية المدفوعة من قبل أحد الأصدقاء المقرّبين في تلك المدينة، والذي يعيش فيها منذ سنوات برفقة أسرته.
أنهيت وزوجتي التحضيرات بشراء ما يلزم من أمتعة استعداداً للسفر والتوجه إلى لندن مصدر إلهام العظماء البارزين في مجالات الأدب والفن، وما زالت وإلى اليوم تجذب أفضل المواهب في مجال الموسيقى والتمثيل، فضلاً عن كونها أنجبت عدداً لا يحصى من الفنانين الذين شكلوا باقة من المشهد الموسيقي العالمي.
وصلنا أرض مطار هيثرو الدولي في ساعة متأخرة ليلاً، وكان صديقي الطيّب وزوجته بانتظار قدومنا. أكثر ما لفت نظرنا بعد الخروج من بوابة مطارها الجميل هو شوارعها العريضة، وأبنيتها الضخمة. ولندن لا شك أنها آخذة في التطور يوماً بعد آخر، وتقدم لزوارها أشهى المأكولات، كما هو معروف عنها على مستوى عالمي.
في لندن لا يمكن أن تزورها، ولا يمكن لزائرها إلّا أن يبادر إلى زيارة قصر باكنغهام ومتنزّه هايد بارك، وصولاً إلى قصر كنسينغتون، أو حتى زيارة ملعب ويمبلي الأولمبي الأشهر في العالم، والذي طالما استضاف بطولات عالمية في كرة القدم والرجبي.
الحياة في مدينة لندن كما رأيناها تسحرك تماماً، حيث تزخر بملامح القرون الوسطى، وأهم ما يميّزها برجها والأسواق والحانات المحلية في منطقة وستمنستر
الحياة في مدينة لندن كما رأيناها تسحرك تماماً، حيث تزخر بملامح القرون الوسطى، وأهم ما يميّزها برجها والأسواق والحانات المحلية في منطقة وستمنستر، كما تعد مركزاً مالياً تضاهي في ذلك مدينة نيويورك، وتشتهر بساعة "بيغ بن" الشهيرة، ونهر التايمز ثاني أطول أنهار المملكة المتحدة حيث يبلغ طوله 346 كيلومتراً. ومن معالمها مبنى البرلمان من أقدم المباني التاريخية، وعين لندن، وهي الحلقة الدائرة التي تجعل السائح يطل على كل ملامح العاصمة.
وزيارتي إلى عاصمة الضباب قادتني إلى زيارة إدنبرة، عاصمة اسكتلندا في المملكة المتحدة، التي سافرت إليها بالسيارة، حيث تبعد عن لندن 650 كم، في حين تستغرق الرحلة 4 ساعات ونصف الساعة باستخدام القطار. وخلال الرحلة خرجت بتجربة أكثر ثراءً.
زرتها أوّل مرّة ولم أتجاوز منتصف الأربعينيات من العمر. أحب هذا العمر ففيه الخيال خصب، والتاريخ نصف حي، والفضول شديد. اسكتلندا كانت تعني في ذهن شاب مثلي أشياء كثيرة. تعني الإقليم الذي أخرج للعالم أعتى المستعمرين الغربيين وأقواهم مراساً وعشقاً لبريطانيا العظمى. تعني أيضاً المياه الوفيرة دائماً، والأمطار الغزيرة بعض الوقت، والسحب الرمادية معظم الوقت، والخضرة ذات النكهة الخاصة طول الوقت.
خرجت من إدنبرة في سيارة مع صديق تمتلك عائلته أراضي، يقول عنها إنّه لم يعرفُ يوماً حدودها. كان غرضه من رحلة ذلك الصباح أن نتجول في بعض المدن الجبلية وبعض المدن النهرية في طريقنا إلى القلعة التي يقيم فيها أهله.
توقفنا مرتين، مرة لأمتّع العينين والأنامل بمنظر ونعومة منتجات الصوف الاسكتلندي في محال صغيرة وأنيقة، ومرة أخرى في منطقة يلتقي عندها نهران. هناك ساد الظن لقرون عديدة أنَّ وحشاً هائل الحجم يصعد من وسط الماء. تروي رواية أنه كان يصعد ليخطف الفتيات، وتروي أخرى أنه كان يصعد ليؤكد لملوك إنجلترا أنه هنا في أنهار اسكتلندا جاهز دائماً ليحميها من اعتداءاتهم المتكررة.
راح صديقي ليأتي بالسيارة التي تركناها على مدخل الشارع الرئيسي في هذه القرية المبتلة، ولكن المبهجة بألوان زهورها ونظافة شوارعها. فكرت أن أنتهز الفرصة وأدخل إلى مقهى صغير أدلل فيه نفسي السعيدة بهذه الرحلة بفنجان من القهوة المركّزة. طلبت القهوة، وفي الانتظار تجولت بِعَيْنَيّ في أرجاء المكان، في اللوحات المعلقة والثريات القماشية البسيطة والموائد الصغيرة بمفارشها داكنة الحمرة.
هناك في الخلف رأيت باباً موصداً زجاجه يعلن عن وجود موائد أخرى في حديقة خلفية للمقهى. استأذنت صانعة قهوتي فأذنت. مشيت إلى الباب وفتحته. دخلت إلى الحديقة الجميلة وشعرت على الفور بلسعة برد حلوة، أم كانت لسعة شيء آخر غير البرد. نظرت مرة أخرى في جهة مصدر اللسعة. هناك كانت المفاجأة، تفاجأت بالموقف ولم أتفاجأ بما رأيت أو بمن رأيت.
عدت إلى اسكتلندا مرات عديدة وفي أوقات متباينة. كذلك لم تنقطع زياراتي لأصدقاء قريبين جداً في دول عربية كانت شقيقة ولا تزال. ولألتقي أيضاً معارف تعرّفت عليهم قبل سنوات قليلة وتوثقت الصلات ببعضهم. دخلت بيوتاً كثيرة في الدول التي زرتها عابراً أو أقمت فيها. وجدت في كل بيت، أو في معظم البيوت، حكايات تستحق أن تروى وحكاية واحدة لا تروى حتى وإن استحقت أن تروى. حاولت مراراً التغلّب على عوائق "الحكي" بأن أتدخل في الحكاية بإجراء تغيير في بعض تفاصيلها. نجحت في أحيان وفشلت في أحيان كثيرة. فشلت في كل مرة كنت متأثراً عاطفياً بالتفاصيل. أنا أيضاً بشر. أنفعل بما ينفعل به غيري من الناس. أحياناً أقع على تفصيلة لأكتشف بعد قليل أنها نواة الحكاية وجوهرها، فإن تغيرت لم تعد هناك حكاية لتروى. حينذاك يغالبني الإشفاق على أبطالها، أو على مسرحها، أو على روعة المشاهد والأفعال والمشاعر، يغالبني حتى يغلبني فأمتنع ولا أحكيها.