لكلّ منّا "ديسمبر" خاص به!
هلا نهاد نصرالدين
لشهر ديسمبر/ كانون الأول مكانة خاصة في الأدب والفن العربي والغربي. فالكثير من الأدباء والروائيين وصانعي الأفلام كتبوا عن ديسمبر. فمن "في ديسمبر تنتهي كلّ الأحلام"، للروائية السعودية أثير عبد الله النشمي، إلى "يوم في ديسمبر"، "دائمًا في ديسمبر"، و"ديسمبر المفقود" وغيرها الكثير من الروايات والأفلام.
لكلّ منّا ديسمبر خاص به، ديسمبر للرومانسية، لكسر القلوب، للميلاد، ورأس السنة. أمّا "ديسمبري" أنا فهو مرتبط بمدينة قونية، بجلال الدين الرومي وشمس التبريزي وذكرى وفاة الرومي. إلّا أنّ القاسم المشترك بين "ديسمبراتنا" جميعًا هو الحب، بأشكاله المختلفة.
"ركعتان في العشق لا يصحّ وضوؤهما إلّا بالدم"، آخر ما قاله المتصوّف الحسين بن منصور الحلّاج بعد أن قُطعت أطرافه بتهمة الكفر والزندقة، فمسح بيديه المبتورتين على وجهه، وتوضّأ بدمه لركعة أخيرة قبل أن يفارق الحياة. كلّ هذا لسبب واحد فقط: أنّه اختار طريق العشق، فسمّي بشهيد العشق الإلهي.
"تقدم السياف وقطع يده ثم رجله ثم قطع يده الأخرى ثم رجله الأخرى. فما كان من الحلاج، كما يروي فريد الدين العطار، إلا أن مسح وجهه بيديه المبتورتين النازفتين دماً، حتى تلطخ وجهه وساعداه بالدم، فقالوا له : ولم فعلت ذلك؟ قال: لقد ذهب من جسمي دم كثير، وأعلم أن وجهي قد اصفر، وقد تظنون أن اصفراري نتيجة للخوف. فمسحت وجهي بالدم حتى يكون في نظركم محمراً، فحمرة خد الرجال لا تكون إلا بدمائهم. فقالوا له: عندما حمرت وجهك بالدم لم لطخت به ساعديك أيضاً؟ فأجاب: إني أتوضأ فقالوا: أي وضوء هذا؟ أجاب: ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم”. (من كتاب "الحلاج في ما وراء المعنى والخط واللون" - د. سامي مكارم)
منذ ستّ سنوات وأنا أرغب في السفر إلى مدينة قونية التركيّة للمشاركة في المهرجان الصوفي أو ما يُعرف بـ "الحج الصوفي" في ديسمبر/ كانون الأول من كلّ عام، تحديدًا في ذكرى وفاة جلال الدين الرومي. أخيرًا سنحت لي الفرصة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي (2022) أن أشارك في المناسبة الصوفية السنويّة.
لطالما كنت متشوّقة لرؤية المدينة التي اختارها الرومي واحتوته وجمعت بينه وبين توأم روحه شمس التبريزي. لم تخيّب هذه المدينة أملي، وفهمت لماذا اختارها الرومي مسكنَه الأخير وصارت مرجعًا للصوفيين حول العالم.
رائعة هي قونية، مدينة هادئة، بسيطة، زاهدة تبعث بالسلام والآمان والطمأنينة. إلّا أنّ "قونية"، وبكلّ سلامها تقاوم، تقاوم عصر السرعة، عصر الرأسماليّة، عصر الاستهلاك. لا تجد "أوبر" في قونية، ولا تشعر بحالة من الاستعجال وأنت تمشي في شوارعها.
قد تكون نقطة التقاء جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي في قونية، على بساطتها، إحدى أصفى الأماكن التي رأيتها. فهي لا تتعدّى كونها حوض ماء مع تمثال صغير في وسط أحد شوارع قونية.
أمّا أهل قونية، فيتميزون بلطفهم وبساطتهم وحبهم للآخرين. وكأنّ كلّاً منهم يحمل جزءًا من روحَي الرومي والتبريزي. يفترشون الطرق بكراسي الخشب والقش القديمة ويشربون الشاي. لربّما ينتج هذا السلام عن تقلبات سياسية ومعارك عدّة شهدتها هذه المدينة.
لمحة تاريخية عن قونية
قونية، المعروفة سابقًا بإسم أيقونيوم، لها تاريخ حافل منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. شهدت حكم الحثيين، وتأثير الفرس الأخمينيين، وأصبحت جزءًا من إمبراطورية الإسكندر الأكبر. تحت حكم الرومان والبيزنطيين، ازدهرت قونية كمركز تجاري ومحور مسيحي، مزيّنة بالكنائس والكاتدرائيات. استولى الترك السلاجقة على قونية في عام 1072، حيث شهدت قونية عصرها الذهبي فأصبحت عاصمة سلطنة السلاجقة حتى عام 1307 مع الغزو المغولي. تمّ إدماجها في الإمبراطورية العثمانية في عام 1467.
تحمل قونية، بتراثها التاريخي الغني، إرثًا صوفيًّا فريدًا. بدأت منذ القرن الثالث عشر مع وصول جلال الدين الرومي، الصوفي المشهور، إلى عاصمة سلطنة السلاجقة. تعاليم الرومي، التي تؤكد على الحب والاتحاد الروحي مع الله.
يعتبر متحف الرومي موقعًا تراثيًا عالميًا مدرجًا ضمن مراكز الحج العالمية للصوفية، حيث يحتضن قبر الرومي ويتيح اليوم للزائرين فرصة خوض التجربة الصوفية.
أضعت هاتفي في قونية، هاتف حمل خمس سنوات من الذكريات والصور والرسائل، وتفاصيل متعلقة بالعمل، ولكن، لغرابة الأمر، لم أحزن على فقده، ولم أتأثّر، وبقيت أيّاماً عدّة دونه أعيش التجربة الصوفيّة دون أي تشتّت. كأنّما زهد المدينة انسحب عليّ، فاكتفيت بها وبجوّها وانقطعت عن العالم الافتراضي الذي سرق متعة الحاضر، وسرحت بـ36 درويشًا زاهدًا في القاعة يؤدّون رقصة العشق الإلهي "سما" (رقصة الدراويش المولويّة)، ويطوفون حول نفسهم.
لا تسعى هذه المدونة إلى الاستعراض التاريخي الدقيق لسيرة المتصوّفين المذكورين، ولا إلى دراسة الظاهرة الصوفيّة بمختلف أشكالها وطرقها أو مقاربة الأفكار الصوفيّة بشكل ديني، فهذا مجال واسع فيه الكثير من الطرق أبرزها المولويّة والنقشبنديّة والشاذليّة وغيرها، لدرجة أنّ "العالم" الصوفي يُدرّس كشهادات عليا في الكثير من الجامعات الدوليّة المرموقة.
لا بل هذا المقال هو أبسط من ذلك بكثير. هو تعبير إنساني شخصيّ عاطفيّ لنوع آخر من المشاعر، لنوع آخر من الحبّ، لأفكار كانت بمثابة النور في العتمة، والحب الحقيقي عند التخبّط والشدّة، والأمان والقرب من الله دون شروط مسبقة ودون أحكام مؤذية وضيّقة. فتمثّل الصوفيّة، بالنسبة لي، الاحتواء والدعم والحبّ غير المشروط وتقبّل الآخر، فكما قال مولانا الرومي:
"تعالَ .. تعالَ
لا يهم من أنتَ، و لا إلى أي طريقِ تنتهي
تعالَ .. لا يهم من تكون
عابر سبيل .. ناسكاً .. أو عاشقاً للحياة
تعالَ .. فلا مكان لليأس هنا
تعالَ .. حتى لو أخللتَ بعهدك ألف مرة
فقط تعالَ لنتكلم عن الله".
إلّا أنّ رسائل المتصوّفين لم تقتصر على العشق الإلهي، بل تضمّنت أيضًا معاني ثورويّة على المفاهيم الجامدة التي كانت قائمة. فقال الرومي "لَم يَكُن أبداً من شروط السير إلى الله أن تكون في حالة طُهرٍ ملائكية، سِر إليه بأثقالِ طينك، فهو يحبُ قدومك إليه ولو حَبواً". ومن الأقوال التي تنسب إلى الرومي أيضًا: "إن كنت تبحث عن الله فهذه مشكلة .. الله فيك وأنت لا تدري"، "وجدتك في قلبي ومنذ ذلك الحين أطوف حول قلبي".
"أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم
لم هذا التيه من أجل معشوق واحد
ما تبحثون عنه في هذا العالم
ابحثوا في دخائلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق".
(جلال الدين الرومي)
أمّا الحلّاج فقصته مختلفة وأكثر إشكالية. كان ثورويًّا على طريقته، لم يتماشَ مع بيئته ويذوب فيها وبمعتقداتها بل بقي ظاهرة غريبة منتفضة يدعم المستضعفين ويتمرّد على الحكّام والظلم. فانتهى به المطاف "مصلوبًا بباب خراسان المطل على دجلة… بأظلم محاكمة عرفها تاريخ الفكر الإسلامي وأكثرها جورًا والتباسًا"، بحسب كتاب الباحث د. سامي مكارم "الحلاج في ما وراء المعنى والخط واللون". فتُلي أمر الخليفة، "واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فتقدّم بقطع يديه ورجليه، ثم اضرب رقبته وانصب رأسه وأحرق جثّته".
فهو الحب والعشق الذي دفع الحلّاج لأن ينشد:
يا نسيم الريح قولي للرشا... لم يزدني الوردُ الّا عطشا
لي حبيب حبّه وسط الحشا... إن يشأ يمشي على خدّي مشى
روحه روحي وروحي روحه... إن يشأ شئت وإن شئت يشاء.
رغم الانتقادات الكبيرة التي واجهها الصوفيون، إلّا أنّ الفكرة الصوفيّة لم تمت لأنّها ببساطة خاطبت الكثير من الناس الذين وجدوا فيها ملجأً وأُنسًا وإيمانًا وحبًّا واحتواء.
ما ضرك لو أطفأ هذا العالم كله أضواءه في وجهك، ما دام النور في قلبك متوهجاً (جلال الدين الرومي)
هذه المدونة كما الصوفية وقونية مكان آمن، لنجتمع جميعًا على قول الرومي:
"خارج مضمار كل الأفكار
كل مفاهيم الخير والشر،
الفضيلة والخطيئة
هناك مرج واسع بلا نهاية
سألقاك هناك".
فلنلتقي هناك… على طريق الحب!