كيف تطلق السلطة النار على قدميها؟
طوال العقود الماضية، ومع دخول السلطة الفلسطينية حقبة أوسلو وما بعدها، ثم العهد الجديد مع رئيسها محمود عباس، تحولت "فتح" من خندق المقاومة إلى المساومة، وإلى مداهنة الاحتلال في عدوانه على فلسطين، وعلى قبول الحلول الوسط مع كيان لا يؤمن هو ذاته بالحل الوسط، هذا بعيدا عن عدم وطنية الحل الوسط بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم، لكن "الرب" الأميركي الذي تؤمن به "حركات المساومة" جعلهم يصدقون أن ثمة "حل دولتين" يمكن الوصول إليه إذا ما وضع أصحاب الأرض السلاح، وبالطبع ليس هذا القرار ساريا على الإسرائيليين، ولا عصابات الهاغاناه بأشكالها الحديثة الممتدة اليوم، ولا ذلك الجيش المدعوم والمسلح بأعتى أسلحة العالم، وبدعم بيضاويّ غير محدود، فسلكت السلطة نهجًا يبيع فلسطين قطعةً قطعة، وشبرا شبرا، حتى بتَّ لا تجد كيلومترين فلسطينيين خالصين على الخريطة، في كل غرفة مسمار، وفي كل بيت غرفة، وفي كل مدينة مستوطنات جديدة.
وعلى هذا النحو من الغباء السياسي، والسفه الوطني، خرجت "فتح" من المقاومة إلى ممارسة سياسة تطبيعية مع الكيان المحتل، فأمكن للمقاومين، الذين ما زالوا يشدون أصابعهم على الزناد، ويقبضون بكفوفهم على جمر الكفاح المسلح دون رضوخ، أن يصنفوا الحركة، وأن يقسموا الدروب، وأن يعتبروها خارج المشروع الوطني بتعريفه الحقيقي، لا حسب ذلك التعريف الذي تصوغه المؤسسات الأكاديمية الغربية ومراكز الأبحاث المدجنة في المفارخ الأميركية والبريطانية، وعليه فإن فتح كانت بالنسبة لذلك الجمع الفلسطيني الضخم سلطة التنسيق الأمني مع الاحتلال، والتطبيع مع مشروع الاحتلال ذاته، والقبول بفلسطين ممزقة كرقع على خريطة معظم ما فيها "إسرائيل".
وليس الأمر بتلك البساطة، وإنما تخللته دماء ومعارك حامية، لكنها على كل حال لم تتعدَّ موضع الخائن والمتآمر والنذل في نظرهم، فأي "شريك وطني" ذلك الذي يبيع أخاه وأرضه وعرضه مقابل التمويل وحصص الفتات التي يلهث عليها نهاية كل شهر؟ ولكن، كانت الأمور في أغلب الأحيان تتجه نحو الرمنسة والخطاب الذي يحتوي الأمر أن يكبر عن حجمه حينها، أن ثمة أخوين يختلفان في طريقة تحرير البيت، الأول لا يعترف إلا بأن البيت كله له، والثاني لا يريد أكثر من غرفة وساعات محددة لقضاء الحاجة دون أن تكشف عورته.
لكن ما انتقلت إليه السلطة الفلسطينية اليوم بـ"حماية وطن" التي أطلقتها، فإنما هو حماية الوطن اليهودي المنشود لصهاينة العالم، والتحرك نحو العمل المنظم بجد واجتهاد داخل المشروع الإسرائيلي وتحت مظلته، لا مجرد الخيانة تحت طاولة تتوسط مقعديهما، وإنما على سرير يجمع مقعديهما، لدرجة أن يموت الفلسطيني من قوات أمن السلطة في معارك مع المقاومين، نيابةً عن الإسرائيلي، مستعدًا لتقديم روحه فداءً "للاستقرار" الإسرائيلي الموعود، فيما يظن أنه سيجلب له منافع الإدارة الأميركية الجديدة، وتقبل أوراق اعتماده، كفلسطيني مسخ، بديل للفلسطيني الأصلي، فلسطيني بلا أنياب ولا مخالب ولا حقوق ولا حنجرة ولا صوت ولا دم ولا دين ولا ثأر، فلسطيني لا يحمل السلاح ولا يؤمن بالكفاح إلا في وجه من يحمل السلاح ويؤمن بالكفاح!
وبهذا تطلق السلطة النار على قدميها من حيث لا تدري، حيث ستنتقل بالتبعية من موضع "الشريك الخائن" إلى "العدو الشريك" المضاف إلى العدوان الإسرائيلي الخالص على الفلسطينيين وحياتهم وأعراضهم، فلا يستطاع التمييز بين أمن سلطة وأمن بن غفير، ولا المخابرات هنا ولا الشاباك هناك، ولا فرق بين تلك الوجوه الكالحة المترهلة والوجوه الحقودة المظلمة التي تموت بالسرطان بعد معاناة طويلة في نهاية المطاف، بهذا تخرج "السلطة الفلسطينية" رسميا من أي انتساب لفلسطيني ولو بالعار والتواطؤ والخيانة، إلى العنوان الإسرائيلي الجديد.