كم نحتاج من الثقة، كم نحتاج من التضامن؟
في ظل الأزمات الجماعية الكبيرة، وخاصة الاجتماعية والاقتصادية، يلجأ الأشخاص الأكثر ضعفا إلى خيار واحد، وهو البحث عن الأمان الشخصي، والأمان الشخصي هنا هو فعلياً حالة من الجمود الرضائي، توقف حاسم عن الاختلاط بالآخرين كائنين من كانوا حتى تصيب العزلة أفراد الدائرة الضيقة والأكثر قرباً.
ابتعاد عميق وطويل الأمد عن الجميع، ليس خوفا منهم فقط، بل بسبب الانغماس بحالة من الاستخفاف بالذات. شعور عميق بأنه لا أحد مستعد أن يساندك أو يدعمك، لكن الأشد خطراً هو الخوف من الجميع دون سبب مباشر واضح. وكأن البشر يسعون جاهدين لتجنب أي شر طارئ يتخيلون أنه قد يصيبهم نتيجة الاختلاط مع الآخرين، وربّما تكون كلمة واحدة غير مقصودة أو قيلت ببساطة وتلقائية سبباً لمشكلة كبيرة لا تحمد عقباها وستنعكس نتائجها حكماً على الشخص الأضعف تحديداً.
يبلغُ خطر غياب الثقة مستواه الأقصى عندما يتحول إلى قاعدة عامة، وفاقد الثقة بالآخرين عاجز عن منحها لنفسه مهما استقوى بقدراته الواقعية والغيبية، فاقد الثقة عاجز عن منحها لشركائه في مساحة ضيقة قد لا تتجاوز مساحة غرفة واحدة!
غياب الثقة يبدو محصلة طبيعية للهزات أو التبدلات الكبرى، لكنه فعلياً ليس محصلة طبيعية وحسب بل، هو نتيجة متلاعب بها لتصبح عامة ومعممة
وغياب الثقة يبدو محصلة طبيعية للهزات أو التبدلات الكبرى، لكنه فعلياً ليس محصلة طبيعية وحسب، بل هو نتيجة متلاعب بها لتصبح عامة ومعممة، وهنا تهتز كل محاولات التشارك أو البناء المجتمعي بصورة جماعية، يصير غياب الثقة محصلة طبيعية لشيطنة الآخر مهما كان نقياً وبريئاً وضعيفاً، لدرجة أن غياب الثقة يصير مبرراً للتقصير وللخذلان وللانكفاء ولغياب التضامن المجتمعي والإنساني المطلوب والضروري لبناء المجتمعات ولتجاوز الآثار الكارثية لكل نزاع أو صراع على كافة المستويات.
يوم أمس، سقطت شابة فجأة أمامنا في منتصف الطريق في سوق شعبي، كان الهاجس الأول هو إبعادها عن حركة السيارات النشطة وعن العابرين، تجمع عدد كبير من الناس بدافع الاهتمام، لكن دافع الفضول كان أكبر، صرّحت أكثر من امرأة بأن سقوط الفتاة كان تالياً أو نتيجة لمكالمة هاتفية كانت تجريها على جوالها.
توافق الجميع، وخاصة من سمع طرفا من تلك المكالمة، على أن خبراً مفزعاً قد سبب السقوط والإغماء للشابة، لكننا كنا بحاجة لإيقاظها بسرعة، ولتحسين استجابتها لدعواتنا القلقة كي تصحو ونطمئن على حياتها، وعندما استجابت غرقت في نوبة بكاء هستيرية!
انقسمنا هنا إلى فريقين، فريق فضولي مهتم بمعرفة السبب وفريق مهتم بالإنعاش والمحافظة على سلامة الشابة ريثما تكون قادرة على العودة إلى منزلها، أو لتحديد الخطوة التالية لما بعد الصحو مثل نقلها إلى المشفى أو الاتصال بسيارة الإسعاف وسواها من الإجراءات الضرورية الضامنة للتعافي.
بعد عدة دقائق بدا نبض الشابة ممتلئاً، وإشاراتها الحيوية يقظة ومستجيبة لكل أسئلتنا، لكنها غارقة في البكاء، طلبت ماء وطعاماً، وطلبت أن يبقى أحدنا معها لأنها لا تريد العودة حالياً إلى البيت! للأمانة كان التضامن كافياً ليمنح شعور الاطمئنان لأي مستجير، لكن بدا واضحا أنّها تطلب والحقيقة أنها تحتاج لأكثر من التضامن، كانت بحاجة فعليّة للثقة بأنها وإن عادت لمنزلها معافاة وسالمة وواعية لن تتلقّى عقوبة يبدو أن أحد ذويها قد هددها بها! وهنا الطامة الكبرى! فلا ثقة لنا بأن حضورنا هنا بقربها سيمنحها هذه الثقة وسيقنعها بالعودة طوعاً إلى بيتها، لم نكن واثقين من صحّة القصة طالما أنّها لم تصرّح عنها بوضوح، لا ثقة لدينا بأن مرافقتها حتى منزلها قد تخفف من أذى محتمل ينتظرها!
خلاصة القول: إن التضامن فعل مدني وإنساني مباشر يمكن منحه ولو مؤقتا لمن يحتاجه أو يطلبه، لكن الثقة هي عملية معقدة ومتكاملة وتشاركية، يتم بناؤها عموديا وأفقيا كقاعدة عامة للعيش، الثقة تُبنى بإرادة وجهود الجميع.