كثيرون حول القهوة... قليلون حول الشاي!

24 يناير 2023
+ الخط -

كثيرًا ما تتزاحم الأفكار بداخلي، وتتصارع في عقلي، أيّها ينتصر بفكرة الأسبوع القادم؟ أيّها سيكتب هذه المرة؟ أيها ستطلّع إليها العيون ويختلس الضيوف النظر إليها ويتخذ البعض منها عبارات مفضّلة في يومه، أو حياته، وتشتبك في دفتري، ولا أجيد الإصلاح بينها، إلا حين أقدّم وعودًا بترتيبها، هذه الفكرة اليوم، وتلك الفكرة غدًا، أما أنتِ فأدّخرك لوقت أهم، وهكذا تتراص الأفكار في طابور مهندم، تقف في أدب، وتنتظر دورها حتى النَّص الجديد.

حين جلست أبحث عن موضوع المقال الجديد، وعمَّا يجب أن أكتب هذه المرّة، فوجئت بخلوّ دفتري، بين قديم ذبل، وحديث ينتظر أن ينضج، ومؤجل ينتظر الميعاد، فشعرت أنني بالفعل في ورطة! ماذا أفعل؟ وهو موعد الكتابة الضروريّ، وخصوصًا أنني أريد أن أكتب، ليس فرضًا عليّ، وإنما عيبٌ عليّ إن لم أفعل، فكرتُ، وبحثتُ، واشتعل الرأس شيبًا في ثلاثين دقيقة، وما زال الذهن مقفرًا، ذهبت إلى المطبخ، "لقّمتُ" الشاي تلقائيًّا، وحينها قفزت الفكرة التي كانت محبوسة في "برطمان" الشاي إلى رأسي! ألم تكن فكرة مؤجلة منذ عشر سنوات تقريبًا؟ الشاي.. وما غيره؟

حين سألت أبي عن أقصى أمانيه من قبل، ونحن بعيدون، أو مبعَدون، تفرّقنا بحور وحدود منذ أكثر من ست سنوات، لم نلتقِ خلالها إلا مرّة يتيمة على عجالة منذ زمن بعيد، قال لي: أن نجتمع كلنا مجددًا، في بيتنا الكبير، نجلس حول جدتي، ننتظر الدور الثاني من "شاي العدّة" (طريقة مصرية في الشاي المغلي)، نشربه (لم يقل نحتسيه كما يحكي المثقفون!)، نتسامر، ونتكلم، ونضحك، حتى الصباح، وبلا نهاية.

حين كنتُ في السجن، وبينما يتم ترحيلنا من مركز شرطة إلى سجن مشدّد، كان معنا شيخ كبير، بين الستين والسبعين، يبدو عليه الصبر والتعب، أو نفاد الصبر والتعب، يمسك رأسه كأنه يشتعل، يستغفر الله، يتعجّل الوقت لنصل إلى المكان المحدّد، كأن أحدنا كان السائق، رغم أنّ ثلاثتنا كنّا مكبّلين في قيود تربط بعضنا ببعض كالذبائح، محشورين في صندوق السيارة المصفّح بلا نوافذ، لا نعرف الضوء من الظلام، وكنت أظنه قلقًا من أن يرفضنا السجن مجددًا، فنعود إلى الترحيل في اليوم التالي، وتلك القصة الطويلة.. 

لكن ما حدث أننا فور دخولنا، وتفتيشنا، وإهانتنا، وتمريغ كرامتنا في التراب، ثمّ توزيعنا على الزنازين، وكان هذا الشيخ معي في الزنزانة نفسها، ما إن زُججنا فيها، واستقبلَنا سكان المقبرة برفق وحفاوة وتطييب خاطر، حتى وجدت الشيخ يسائلهم بالله، وبسرعة: "كوب من الشاي!"، ذُهلت، أنا أيضًا أحبّ الشاي، وكنت أشربه في السجن السابق ساخنًا في كيس بلاستيكي شفاف، مهرّبًا من "مقهى بلدي" في الخارج، بالتربيط بين صاحب المقهى والضباط (على أن يكون لهم عمولة في المكسب، مع بيعه لنا بـ5 أضعاف، لا بأس). لكن ما كان الرجل يفعله هو جنون مدمن، يريد التلقيمة قبل أن ينهار، وبالفعل، أعدّوا له الشاي بأحد اختراعات السجون (أسلاك كهربية تغلي المياه في زجاجة بلاستيكية مع احترامنا الكامل للتفاعلات الفيزيائية أو الكيميائية، بين كلّ هذه العناصر المهلكة)، حتى إذا شربه استفاق، واستنار وجهه، وأشرقت ثناياه، كأننا في ليلة القدر، وأطربنا الرجلُ حكمًا ومواعظ وضحكًا وتهوينًا، كأنه لم يُرحّل بالأمس!

الشاي… بطل صامت ونبيل، لا يحب كثرة الكلام عنه، بقدر ما يحبّ أن يرى الناس يحملونه بين أياديهم وشفاههم ويتحدثون هم عن كلّ شيء...

في طفولتي، كانت شراهتي تجاه الشاي مخيفة، خصوصًا في بيتٍ كلّ من فيه يشعر بأنّ الشاي أحد أبنائه، كان عليّ أن أصمت ثم أتكلم مع أبي بعدما يتكلم الشاي برشفاته المعروفة على فم أبي أولًا، كلٌّ له دوره، والشاي ثلاثة أدوار، وبعدها إن وسِعني المكان فلأتحدث، فورثتُ العادة، وصارت تفصيلة يومية، لدى طفل يعود من المدرسة، يأكل سندويشاته كاملة، يأخذ "نجمة مع الشكر"، يجلس لتناول الغداء، قبل أن يكتب الواجب، ثم "يحبس" بكوب من الشاي على ذلك كله. 

شعر البيت بخطورة الموضوع، فقنّنوا لي الجرعات، مرّة واحدة في اليوم، كان قرارًا غير مدروس، لأنني كنتُ أبحث عن الجرعات الضرورية في مكان آخر، عند بيت لأحد أقاربنا في الشارع نفسه، أتسلّل كأني خارج للعب، ثم أدلف في بيتهم، يستأنسون بحديث الرجل الصغير، الذي جاء يزورهم كلّ يوم ويشرب معهم (بالصدفة ولولا إلحاحهم!) كوبًا من الشاي.

المهم، وحتى لا نقع في ما عبنا عليه إخواننا مريدي القهوة، ونكثر الثرثرة واللت والعجن حول عمق المشروب، فإنّني فقط أردت إعطاءه مثقال ذرة من حقه، وهو البطل الصامت النبيل، الذي لا يحب كثرة الكلام عنه، بقدر ما يحبّ أن يرى الناس يحملونه بين أياديهم وشفاههم ويتحدثون هم عن كلّ شيء، أو يقضون مصالحهم في هدوء وروقان تامّين.

وفي هذا المقام، الذي لا يتسع إلا لعدد أقل من ذلك للكلمات، لا يسعني إلا أن أطلب من أصدقائي الذين يحبون الشاي أن يُبقوا على أهم ما يميّزه، هذه الحالة من الهيبة، والوقار، والشعبية الجميلة، من دون نخبوية ولا أحادث عمق ولا كلمات لمحمود درويش، فهو لم يخلق ليشبه مشروبات أخرى، تحب الرياء، بينما يحب هو "الرواق"، والقلوب الطيبة.