قضية سوزان تميم: للعدالة طوابق كثيرة
حزورة: ما الفارق بين هشام طلعت مصطفى وبين محمد عادل؟ فالاثنان مصريان، قاتلا نساء: أمر الأول بقتل المغنية اللبنانية، سوزان تميم، لأسباب لا نعرف عنها شيئاً حتى اليوم، ما خلا تخمينات وإشاعات عن تلك العلاقات الغامضة التي تجمع بين المشاهير. أما الثاني فهو مجرّد طالب، قتل زميلته، نيّرة أشرف، لأنها رفضت الارتباط به.
في الفوارق: الأوّل ملياردير، وهو الرئيس التنفيذي لمجموعة طلعت مصطفى المصرية العملاقة التي تملك عدّة منشآت معمارية في مصر وخارجها. كان عضوًا في الحزب الوطني الديمقراطي المنحل ونائبا في مجلس الشورى المصري السابق. تمتّع ولا زال بعلاقات وثيقة وشراكة مع مفاتيح السلطة السياسية والاقتصاد والإعلام، في حين أنّ الثاني مجرّد طالب متوّسط الحال على ما أظن.
وأيضاً؟ الأول أعادت له محكمة الجنايات المصرية، بقرار صدر منذ أيام، كامل حقوقه المدنية، وهو أمر يسمح به القانون المصري، بعد أن قضى تسع سنوات من محكومية بدأت إعداماً، وإحالة أوراقه وشريكة القاتل المباشر محسن السكري إلى مفتي الديار المصرية، ثمّ أصبحت خمسة عشر عاماً، بعد تنازل والد وشقيق الضحية عن دعواهما ضده، فإطلاق سراح مبكّرا بسبب حسن السلوك، فإعادة اعتبار تتيح له حتى الترّشح لمنصب رئاسة الجمهورية. والثاني، أعدم في يونيو/حزيران الماضي بعد رفض محكمة النقض التماساً لتخفيف العقوبة.
لكن كيف يمكن لمدانين بجريمة توصيفها واحد: قتل عمد عن سابق تصوّر وتصميم أن تكون نهايتهما مختلفة إلى هذا الحد؟
صحيح أنها حزورة، لكن حلّها كما يقال، مجرّد سر شائع. فقدرة الأثرياء الفاسدين على النفاذ من العقاب العادل، خصوصاً أولئك الذين يتمتعون بعلاقات مع شركاء أصحاب سلطة وسياسيين متنفذين، أصبحت لا تصدّق!
لقد أصبح الاستقواء على الضحايا، ممّن لا حول لهم ولا قوة، عادة تنذر بتحوّل المجتمعات إلى مجتمعات قهر أو ثأر
وللنفاذ من العقاب العادل، وأصرّ على كلمة عادل، خريطة طريق معروفة. القوة أوّلاً، إن كانت مالية أو علاقات مع ذوي السلطة، ثم الشراكة في الفساد، ما يعطّل المصلحة في المحاسبة كون الجميع مشتركا في دفن "الشيخ زنكي" كما يقول التعبير الدارج، بعد ذلك تأتي مرحلة الانتظار وترقب الفرصة المناسبة بصبر، والتي تأتي عادة بعد أن يخمد غضب الرأي العام، و(أو) انصرافه لمتابعة هموم أو فضائح أخرى سرعان ما تحل مكان اهتمامه الأول بالجريمة.
بإمكانكم للتأكّد مما أقول، أن تدخلوا مثلاً، كما فعلت، أرشيف إحدى الجرائد المصرية (مهما كان اسمها) وتكتبوا اسم هشام طلعت في محرّك البحث، فتظهر سلسلة أخباره تدريجاً حسب التواريخ: من عنوان "حكم بالإعدام على رجل الأعمال هشام طلعت في قضية تميم" العام 2009 إلى "رفض الإفراج الصحي عن هشام طلعت" العام 2015، إلى عناوين من نوع "المؤتمر الاقتصادي.. هشام طلعت مصطفى يشيد بدور الدولة في تسريع وتيرة التنمية العمرانية" العام 2022، أو "للعام الثاني على التوالي: هشام طلعت مصطفى ضمن قائمة فوربس لأقوى قادة السياحة والسفر 2023"، أو "هشام طلعت يتحدث عن مشروع نور مع عمرو أديب" 2023، وبالطبع الجميع يعرف من هو عمرو أديب. لا بل إنّ زميلاً كتب في جريدة "الأخبار" اللبنانية تقريراً عن المذكور أعلاه، وعن مدى ما "رشّ" من مال منذ دخوله السجن، وحتى الخبر الأخير الذي أفاد بحكم "ردّ اعتباره"، وما بينهما.
أمّا محمد عادل؟ فلا شيء سوى إعادة ذكر اسمه كلّما ارتكبت جريمة من نوع جريمته، من دون أن يذكر زميله في نوع الجريمة الملياردير هشام طلعت.
قد يقول قائل إنّ والد المغنية، وشقيقها (لسبب ما لا يرد في الأخبار شيء عن والدتها) أتاحا للمجرم الثري النفاذ بأقل قدر من العقوبة، بعد سحبهما دعواهما لقاء تعويض مادي "ضخم" بمقاييس الفقراء طبعاً، وليس بمقياس ثروة هذا الملياردير، أو "ديّة" كما يُقال، دفعتها زوجة القاتل بعد مفاوضات صحبة محاميه في بيروت، إثر حكمه بالإعدام. فانتهى الأمر بالملياردير العقاري بقضاء مجرّد تسع سنوات، ثم إطلاق سراح لـ "حسن السلوك"، ليردّ اعتباره بعدها لدرجة الحديث عن إمكانية ترشحه لرئاسة الجمهورية العربية المتحدة! كما ورد في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.
حين تنتشر ممارسات نفاذ الأقوياء من العدالة الحقّة على كامل خارطة العالم العربي، فلا بدّ أن يستبد الخوف بنا
نعم. إلى هذا الحد. تخيّلوا معي، لو صدق فعلاً أنّ الرجل يسعى لهذا المنصب، تخيّلوا أن يدرس أطفال مصر بعد سنوات في كتاب التاريخ، إنّه بعد رئيس من عيار محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر، هناك رئيس اسمه، هشام طلعت مصطفى، مدان سابق في قضية قتل!؟
لقد أصبح الاستقواء على الضحايا، ممّن لا حول لهم ولا قوة، عادة تنذر بتحوّل المجتمعات إلى مجتمعات قهر أو ثأر. لأنه لا يبقى أمام الضحية إلا أمر من اثنين: بلع الألم مهما كان قاسياً وارتضاء الصمت العاجز، أو البحث عن الانتقام وتحقيق "العدالة" بالذراع كما تشهد الأخبار بشكل متزايد.
ومع أنّي لست من أنصار أحكام الإعدام، إلا أنّ حكم المؤبد مع الأشغال الشاقة كان ليفي حق الناس في رؤية العدالة الرادعة تتحقّق.
فالغرض من العقوبة ليس الانتقام من القاتل، بل إنصاف الضحية أولاً، وإرسال رسالة تردع المجتمع عن ارتكاب جرائم كهذه ثانياً. وثم إتاحة الفرصة، بالعقوبة العادلة للمجرم، للتكفير عن جريمته تجاه المجتمع، ما قد يسمح بعودته إليه.
وقد يقول قائل إنّ هذا ما حصل لهشام طلعت، لكن، هل دفع المجرم فعلاً ثمن جريمته؟ كيف تكون عقوبة، محمد عادل، الطالب الذي ذبح زميلته، نيّرة أشرف، الإعدام السريع، في حين أنّ هشام طلعت مصطفى، والمجرم المباشر، محسن السكري، دفعا مجرّد بضع سنوات من أعمارهما؟
لست مصرية، لكن حين تنتشر ممارسات نفاذ الأقوياء من العدالة الحقّة على كامل خريطة العالم العربي، فلا بدّ أن يستبد الخوف بنا.
هذا الإفلات من العقاب، المتكاثر مؤخراً، هو بمثابة إذلال علني للمواطن، بل لكلّ من يؤمن بالقانون والعدالة، من المحيط إلى الخليج
لست مصرية، لكنّي أعلم جيداً كلبنانية ما يعنيه النفاذ من العقاب العادل. أعرفه من قضايا عدّة في بلادي: من الأحكام المخففّة على مرتكبي جرائم رهيبة: كالخيانة الوطنية، العمالة للعدو خلال المعركة، الذبح على الهوية الطائفية خلال الحرب الأهلية، كما اختطاف وإخفاء مواطنين أبرياء وارتكاب مجازر يندى لها جبين الإنسانية. وأعرفه جيداً، من الجرح الذي تركه في قلوبنا نحن المواطنين الأبرياء، إصدار أمراء الحرب اللبنانية عفواً عاماً عن أنفسهم بعد نهاية الحرب، "سيلف سرفيس" يعني، ليتقاسموا بعدها البلاد والعباد ويتبوؤوا سدّة السلطة، وزراء ونواب أمة.
هكذا، خرج المجرمون، بسجلات عدل نظيفة، مهفهفة، كما يخرج الغسيل الناصع البياض في دعاية مسحوق "تايد".
هذا الإفلات من العقاب، المتكاثر مؤخراً، إن كان في لبنان أو مصر، جزئياً كما في قضية طلعت، أو كلياً كما في حالة المجرمين اللبنانيين، هو بمثابة إذلال علني للمواطن، بل لكلّ من يؤمن بالقانون والعدالة، من المحيط إلى الخليج.
أمّا في الخريطة الجغرافية الأوسع؟ فلا يعدو الأمر أن يكون، كما في عنوان الصحيفة الإسرائيلية "هآرتس"، مدعاة سخرية!