في معضلةِ البحث عن حبِّ الناس
عزيز أشيبان
رغم الميلِ الاختياري نحو العزلة والخلوة من وقتٍ لآخر، يظلُّ الكائن البشري اجتماعيًا بطبعه، باحثًا عن التفاعلِ مع الآخرين ومخالطتهم من خلال نسجِ علاقات على أساس الودِّ أو المصلحة الخاصة أو الجماعية. قد تتفوّق الذات في اكتسابِ العديد من الأشياء المادية، لكنّها تُكابد وتُعاني حينما يتعلّق الأمر باللامادي والمعنوي والرمزي من الأشياء. نركز على أنبلِ قيمةٍ تستقرُ في قلبِ مكوّنات الكون، وفي علاقاتهم التفاعلية التكاملية ووظائفهم، ألّا وهي قيمة الحب.
نتحدّث عن قيمةٍ تتحدّى جميع الكلمات التي تظلّ عاجزةً عن تعريفها لما تحمله من ذخائر وفضائل تترك المجال فقط لمحاولاتِ مقاربة تجليّات الحبّ وأثره وحسناته البيّنة والخفية. ومن البيّن أنّ الذات البشرية تتوقُ وتحتاجُ إلى الإحساسِ بالحبِّ والقبولِ من طرف الآخرين، لذلك تحاول إخراج وتصريف أحسن ما يَسكن دواخلها، وربما تدّعي ما تفتقده من كلّ ما هو جميل ومطلوب لدى الناس، فقط من أجلِ كسب ودّهم. يرتقي إذن هذا النزوع إلى معضلةٍ تتعايش في ثناياها التلقائية الكثير من الأشياء مع التصنّع من أجل الظفر بقيمةٍ إنسانيةٍ نبيلةٍ، تتناقض فيها أحيانا طبيعة المدخلات مع المخرجات.
كيف يمكن تفسير هذا النزوع؟
ندرك جيّدًا أنّ الميلَ نحو اكتسابِ حبِّ الناس غريزةٌ إنسانيةٌ تسكن الذات وتحرّكها بقوّة ما دامت ماهية الحكمة من خلقِ الإنسان تستقر في إعمار الأرض والبناء والإنتاج من خلال اكتشافِ أسرارِ الكون وإدراك السرِّ في وجود الطبيعة وربط علاقة وديّة معها، ومع الناس عبر جسر بناء علاقات إنسانية متعدّدة ومختلفة الأهداف والأنساق.
قد ينتقل تعطش الذات إلى الإحساسِ بحبِّ الناس إلى الحدّة والتشدّد، ويولّد بذلك الاضطرابات النفسية والسيكولوجية وعدم التوازن
كما أنّه في محاولةِ البحث عن حبِّ الآخرين، هناك ضمنيًا بحث عن الذات بتحقّق محاولةِ مقاربةِ عناصر قوتها، وضعفها، وهمومها، وهواجسها، وأحيانا تغذية نرجسيتها. ففي حضورِ الآخرين يتحدّد حضور الذات بالوظيفة الحيوية التي تؤدّيها، وبالقيمة المضافة التي تقدّمها، فتكتسب احترامها وكرامتها وسرّ استمرارية بقائها في الوجود.
بالإضافة إلى ذلك، يتحقّق هذا الميل كنتيجةٍ طبيعيةٍ للخوفِ والهروب من الوحدة، الشبح الملازم للإنسان، وقلقه من أن يظلَّ أعزل وحيدًا أمام الوقوعِ في غيابات الفراغ واللامبالاة ومواجهة المجهول وسعيه الدائم نحو تحقيق الاستقرار العاطفي والذهني في حضورِ سطوةِ الاضطرابات النفسية والذهنية. بعبارةٍ أخرى، في قلبِ الإحساس بحبِّ الآخرين، تكمن حماية الذات من ظلماتِ جانبها المظلم، ومن التقلّبات غير المتوّقعة للعالم الخارجي.
كيف تنحو الذات البشرية إلى اكتسابِ حبِّ الآخرين؟
يلتمسُ الإنسان عدّة سبل نحو تحقيق هذا المبتغى اللامادي، وقد يجمع بين السبل التي تكتنفها المصداقية وبين أخرى تفتقدها. ربّما، يركزُ الإنسان على ممارسةٍ قاسيةٍ للرقابة الذاتية عند تعامله مع الناس، ويعرضُ عن مضايقتهم، ويستجيب لمعايير وأدبيات المجتمع في التعامل، ويبذل أقصى الجهد في عدمِ إخراج بعض عناصر الجانب المظلم من شخصيته تجنبًا للمسِّ بالتصوّر الذي يودُّ تحققّه وتمثّله. كما ينغمس في الإرضاءِ، وربّما الإطراء وغضِّ الطرف عن سلوكياتٍ لا يستسيغها ويتسامح مع ما يؤرقه ويثقل كاهل مشاعره وصحته الذهنية.
في قلبِ الإحساس بحبِّ الآخرين، تكمن حماية الذات من ظلماتِ جانبها المظلم، ومن التقلّبات غير المتوّقعة للعالم الخارجي
ماذا عن مخرجات هذا النزوع الإنساني؟
نراه مسارًا متعبًا للغاية، إذ يستنفد الطاقة ومصادر القوة من خلال الإقبال على الجهد الذهني والعاطفي في طلبِ اكتساب حبِّ الآخرين، لكن مع الوعي الذاتي المسبق والتام بعدمِ نقاوة وبراءةِ الهدف ومدى أحقية الجدوى من تحقيقه بكلِّ ما يُبذل في سبيله.
فضلًا عن ذلك، قد يحيلُ هذا الجهد المسترسل على فقدانِ الذات لهُويّتها إلى الابتعاد عن حقيقتها والانصهار في المتخيّل الذي يريده العالم الخارجي ويصيبه بالإطراء والمدح، مثلما قد يؤدي إلى المسِّ بحبِّ الذات وجلدها بالتركيز على إرضاء الآخرين والانغماس في البحث عن الرفقة وقضاء الوقت مع الغير في ما لا طائلة منه، والسقوط في العزلة الحقيقية، إي الانسلاخ عن روح الذات، وما يؤنسها حقيقةً ويقوّيها ويمنحها الثقة والسكينة والرؤية والتبصّر. كما يمكن التحدّث عن إمكانيةِ الوقوع في الخطأ والتماس بعض الأساليب البغيضة كالكذب والاسترسال في تبريرها ما دامت الذات تجد الهدف نبيلًا، يتمحور أساسًا حول كسبِ حبِّ الناس.
قد ينتقل تعطّش الذات إلى الإحساسِ بحبِّ الناس إلى الحدّة والتشدّد، وبما يُولّد الاضطرابات النفسية والسيكولوجية وعدم التوازن وافتقاد الحكمة والرزانة في السلوك وردود الفعل.