في مديح الشيخوخة وصداقة النسيان
تذهلني الشيخوخة، خاصة قدرتها على تدبير الصمت والاقتصاد في الكلام، والاكتفاء من اللغة. فبالنسبة للشيخ، لم يبق هناك شيء ليقال، اللسان قد وقع خارج الخدمة، كما يستطيع جدك أن يبقى لوقت طويل بصحبة الصمت، يرعى صمته، مسمّراً في مكانه لوقت طويل دون ملل، يركز نظراته على زاوية ما كأسدٍ يترصد طريدة، لكن ما هي آخر الطرائد التي بقيت لمن هو على حافة الزمن؟
إنه الماضي، فريسة ماقتي هذا الدهر الذين يردّدون في كلّ مناسبة الشكوى الكلاسيكية: في الماضي كان كلّ شيء على ما يرام، فأن تشيخ معناه، أن تهدأ دهشتك، بحيث يصير كلّ شيء مجرّبا بالنسبة إليك، ويغدو العالم مجرّد تكرار.
لكن الشيخوخة كذلك عدوة الذاكرة والنظرة التاريخية، رغم أنّ هناك صعوبة في أن يعيش المرء سعيداً بدون ذاكرة، إلا أنّ الشيخوخة تمرين في النسيان. نعم، النسيان تلك النعمة التي يستحيل العيش من دونها، فليس الخطر فقط في أن يفقد المرء الذاكرة، بل ثمّة معاناة أيضاً في فقدان القدرة على النسيان، وعلى أخد مسافة من الماضي والحاضر في الآن ذاته. ولذلك، يتقن الشيوخ والعجزة تقنية النسيان لمجاوزة ثقل ووطأة هذا الزمن على قلوبهم، ينسون كلّ شيء يمرّ أمامهم، حتى أسماء الأبناء والأحفاد، وآخر ضيف زارهم، فالكل متشابه بالنسبة إليهم، وليس هناك ما يستدعي التذكّر، يمسحون كلّ ما يحدث أمام أعينهم بممحاة الذاكرة في ضربٍ من الزهايمر المتعمّد والنسيان الموجب والفاعل، وذلك من أجل التنكر للحدث، لغير الأزلي، ومحاربة العابر، فموضوع النسيان بالنسبة للشيخوخة ليس ما فات، ولكنه الحاضر، والذي يتناساه الشيوخ حتى لا يفقدوا ماضيهم، ومعه أنفسهم. لا يمكن أن يحضر الماضي هنا إلا بصفته موجهاً للحياة، إنّ الشيخ "أثر"، شكلٌ من أشكال مقاومة التراث للاندثار، إنه تاريخ يمشي على رجلين.
ليس الخطر فقط في أن يفقد المرء الذاكرة، بل ثمّة معاناة أيضاً في فقدان القدرة على النسيان
قد تتحوّل الشيخوخة أيضاً إلى زمنٍ للحب؛ حب الزمن لنفسه وهو في متاهة الانفلات. فهل هناك من عاشق للحياة أكثر من إنسان على حافتها، حبّ للحب نفسه وقد أدرك استحالته، حبّ يتحدّى فيه الزمن المشاعر، وهذا يذكرنا بالرواية العالمية للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا"، حيث قصة حب استثنائية لم تحقّق ذاتها إلا في مرحلة الشيخوخة، فرغم أنّ طرفي هذا الحب فرّقتهما تجربة زواج الفتاة من رجل آخر، وهو طبيب كان معروفاً وذا قيمة اجتماعية رفيعة، وهو مشهور بتفوّقه في علاج مرضى الكوليرا، إلا أنّ تجربة الزواج لم تكن بالنسبة لها سوى واجب اجتماعي وحاضنة أحقاد، تحوّلت معها الحياة اليومية إلى صراع زوجي، لكن المنعطف في الرواية ستشكله مرحلة الشيخوخة، حيث ستكون أشبه بمرحلة عودة إلى الشباب، وإلى الحياة بما هي رغبة.
فبعد وفاة الزوج (الطبيب)، سيعود حبيبها الأول وستعيش عزلة ما بعد الموت مع حبّ آخر، إذ فجأة عاد حبيب الشباب إلى الظهور في اللحظة التي ودّعت فيها الأرملة تابوت زوجها، حيث نقرأ في ص 251 من الرواية ما يلي: "كما لم تكن قادرة على أن تصدّق بأن ذلك الشاب المكفهر البائس جدا تحت المطر، هو ذاته الشيخ المنخور الذي وقف أمامها دون اعتبار لحالتها... رأت فيه النهاية الطبيعية للأحقاد: تصرّف ينم عن العفو والنسيان... ولهذا لم تكن تتوّقع إعادة المأساوية لعرض حب، وفي سن لم يبق لفلورينتينو اريثا ولها فيها من شيء ينتظرانه من الحياة".
نحن هنا إزاء قصة حب عائد في زمن الشيخوخة، ودرس في كيف يتعلّم الإنسان أن يشيخ دون مرارات، لقد اقترن الحب هنا بالكوليرا والشيخوخة، أي بكلّ ما يرمز إلى الوهن والعجز والمرض، ما يوحي لنا بأنّ كلّ التجارب الإنطولوجية القصوى الدالة على الضعف والوهن كالمرض والشيخوخة وغيرها، يمكن تحويلها إلى تجارب منتجة للمعنى، وللوعي بالذات، من جديد، وبأفق مختلف ينمّي القدرة على الحياة.
ولكلّ هذه المكاسب الوجودية للشيخوخة، وفي هذا الجو من القلق المسكون بالطمأنينة، تصير الرغبة في أن يصير المرء شيخاً وعجوزاً، دون عجز، وأن يهرم الشخص دون تجاعيد، ودون ظهر مقوّس، وبلا عكاز، ودون موجات سعال حاد، وبشعر طويل مصفف "بالجيل"... وفي الآخر شيخوخة بلا دالة الجسد، تجربة جديرة بالحياة.