في ذكرى آينشتاين

21 ابريل 2023
+ الخط -

بتاريخ 10 إبريل/ نيسان 2019، جرى تصوير ثقب أسود يبعد عنّا 55 مليون سنة ضوئية، وأظهرت الصور صدق تنبؤات النظرية النسبية العامة التي قدّمها العالم ألماني الأصل، ألبرت آينشتاين، قبل أكثر من مئة سنة!

وهذه لم تكن المرّة الأولى التي تتحقّق فيها نبوءات هذه النظرية العلمية؛ فقد تكرّر صدق النظرية ونجاحها في كلّ الاختبارات التي أجريت عليها طيلة المئة السنة المنصرمة، حتى صارت عبارة "مرّة أخرى يظهر أنّ آينشتاين على حق" هي ختام كل تقرير يُكتب عن نجاح الاختبار.

من المناسب، في ذكرى رحيله في يوم 18 إبريل/ نيسان، أن نتذكر رحيل عالم عظيم من علماء الفيزياء عبر العصور؛ عالِم غيّر وجه الفيزياء، حتى أصبح نقطة انعطاف مهمة في تاريخها، فأصبحنا نقول الفيزياء قبل آينشتاين والفيزياء بعد آينشتاين! فمن هو آينشتاين؟ وماذا قدّم في الفيزياء لكي يحظى بكل هذه المكانة السامية؟

ألبرت آينشتاين (14 مارس/ آذار 1879- 18 إبريل/ نيسان 1955) عالم ألماني الأصل، ولد في بالم بألمانيا في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، درس بعد تخرّجه من المدرسة الرياضيات والفيزياء في معهد زيورخ متعدّد التقنيات في ميونخ. وبعد التخرّج عام 1900، عمل فاحصًا في مكتب الاختراعات السويسري في برن ما بين عامي 1902 و1909، هذا العمل البسيط أتاح له وقت فراغ أمضاه في الأبحاث العلمية.

عام 1905، كان عاماً ثورياً في حياة آينشتاين وفي تاريخ الفيزياء الحديث، حيث نشر فيه أربع أوراق علمية في مجلة annalen der physik أنالين دير فيزيك، وهي دورية علمية ألمانية؛ نُشرت يوم 17 مارس ورقته الأولى المعنونة "وجهة نظر إرشادية تتعلق بانبعاث الضوء وانتقاله"، ناقش فيها الطبيعة الجسيمية للضوء، وفسّر الظاهرة الكهروضوئية، ولأجلها مُنح جائزة في الفيزياء عام 1921.

عالم عظيم من علماء الفيزياء عبر العصور؛ عالِم غيّر وجه الفيزياء، حتى أصبح نقطة انعطاف مهمة في تاريخ الفيزياء

في نفس الورقة، قدّم آينشتاين فكرة فوتونات الضوء، مطوّراً فكرة زميله العالم الألماني ماكس بلانك حول تقطيع الضوء، والتي كانت نواة لنظرية ميكانيكا الكم، تلك النظرية التي وقف آينشتاين نفسه ضد أفكارها بعد ذلك!

أما الورقة الثانية، فقد نُشرت يوم 11 مايو/ أيار، وكانت عن الحركة البروانية بعنوان "حركة الجسيمات الدقيقة المعلّقة في سائل ساكن بحسب النظرية الحركية الجزيئية للحرارة"، معزّزاً النظرية الذرية للمادة، بل إنّ تلك الورقة كانت بوادر تكنولوجيا النانو. 

أما ورقته الثالثة، فقد نُشرت يوم 30 يونيو/ حزيران، وكانت بعنوان "عن الديناميكا الكهربية للأجسام المتحركة"، وهي ما نعرفه اليوم باسم النظرية النسبية الخاصة، التي تدرس طبيعة الضوء وعلاقة الزمان بالمكان. 

في حين نُشرت ورقته الرابعة يوم 27 سبتمبر/ أيلول، وكانت بعنوان "هل يعتمد القصور الذاتي لجسم ما على محتواه من الطاقة؟"، وفيها استنتاج لمعادلة التكافؤ بين الطاقة والكتلة E=mc2 من النسبية الخاصة، إنها أشهر معادلة في القرن العشرين، والتي على أساسها صُنعت القنبلة الذرية!

لفتت هذه الأوراق العلمية نظر المجتمع العلمي إلى آينشتاين وعبقريته، فانتقل من مكتبة براءة الاختراعات إلى الجامعة في سويسرا، وبعدها ألمانيا في أعوام 1909 و1911.

في عام 1915، قدّم آينشتاين نظريته النسبية العامة مطوّراً نظريته النسبية الخاصة؛ حيث قدّم فيها تصوّراً مبتكراً لمفهوم الجاذبية يختلف عن تصوّر نيوتن؛ فنيوتن يرى أن الجاذبية قوة مؤثرة لحظية بين الكتل، وأنّ هذه الكتل لا أثر لها على الزمان والمكان اللذين توجد فيهما، في حين يرى آينشتاين أنّ الزمان والمكان متشابكان في نسيج ذي أربعة أبعاد سُمي الزمكان space-time، والكتل فيه تحني هذا النسيج، كما لو أنّ شخصاً ثقيلاً جلس على منتصف ترامبولين. 

والجاذبية هندسة انحناء الزمكان التي تتحرّك الكتل تبعاً لها؛ أي أنّ الكتلة تخبر الزمكان كيف ينحني وانحناء الزمكان يخبر الكتلة كيف تتحرك.

هذه الأفكار الثورية خضعت للاختبار، ولعل أهمها تجربة كسوف الشمس في عام 1919، التي أثبتت انحناء الضوء حول الشمس بنفس الزاوية التي تتنبأ بها النسبية العامة، واستمرت بعدها التجارب تختبرها، وكانت آخرها تجربة مسبار الجاذبية بي، التي اشتركت فيها وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" وجامعة ستانفورد في كاليفورنيا، وأعلنت نتائجها في 4 مايو/ أيار 2011 بما يوافق توّقعات آينشتاين.

يرى آينشتاين أنّ الزمان والمكان متشابكان في نسيج ذي أربعة أبعاد سُمي الزمكان

والتقط مرصد ليغو لأمواج الجاذبية في فبراير/ شباط 2016 تلك الأمواج التي تنبأت بها معادلات آينشتاين في فبراير/ شباط 1916، وكذلك وجود الثقوب السوداء، كما يتضح من حلّ معادلات النسبية العامة، وجرى تصويره بتاريخ 10 إبريل/ نيسان 2019.

لم يشفع الإثبات التجريبي للنظرية النسبية في تجربة كسوف الشمس عام 1919 لدى لجنة جائزة نوبل، التي منحت آينشتاين جائزتها في الفيزياء عام 1921 عن تفسيره الظاهرة الكهروضوئية وليس النسبية!

في عام 1933، وصل الزعيم النازي أدولف هتلر إلى سدّة الحكم في ألمانيا، وبدأ بمحاربة اليهود الذين كان آينشتاين واحداً منهم، فما كان من آينشتاين إلا أن استجاب للدعوة التي تلقاها للتدريس من معهد الدراسات المتقدمة في برنستون بولاية نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأميركية، فذهب إلى هناك واستقر حتى وفاته عام 1955.

حاول آينشتاين أن يجمع كل قوانين الفيزياء في قانون واحد من خلال عمله الأخير "نظرية المجال الموّحد"، لكنه مات ولم يتوّصل إلى شيء، ولعل أهم الأسباب في هذا الإخفاق هي وقوفه ضد نظرية ميكانيكا الكم بسبب أحوال الاحتمالات التي تجري داخلها، حيث عبّر عن امتعاضه من ذلك بمقولته المشهورة "إنّ الله لا يلعب النرد"! ليرد عليه عالم الفيزياء الدنماركي نيلز بور: "نعم، لكن لا تقل لله ماذا يجب أن يفعل!".

لقد خاض آينشتاين جدالاً مع أهم منظّر لنظرية ميكانيكا الكم وهو صديقه (اللدود) عالم الفيزياء نيلز بور، فكانت مجادلاتهما ذروة العلم والفلسفة معاً. 

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى