ذكرياتٌ لم يغادرها الأمل
عبد الحفيظ العمري
(1)
ذات زمن كنتُ أبحث في محتويات دولابي المكتظ وغير المرتّب، كالمعتاد، عن أحد الكتب، فإذا بصورةٍ قديمة تقع بين يدي. كانت صورة تخرّجي في الجامعة، توقفت أتأملها وأتأمّل الشخوص الموجودين فيها، فالصورة منذ قرابة عقدين من الزمن (2000)، ولها من الشجن ما لها؛ فالتخرّج واحد من محطّات الحياة التي لا تُنسى؛ إنها لحظة تخرّجك في الجامعة الصغرى لتدخل الجامعة الكبرى، لذا لا غرابة أن تكون لفظة الجامعة بالإنجليزية (university)، قريبة من لفظة الكون (universe)، وكأنّ الجامعة كونٌ مُصغّر!
هذا أنا في الصورة مع زملائي خريجي قسم الهندسة الميكانيكية جامعة الأنبار في العراق عام 1999-2000. لقد سميناها دفعة "ملوك القرن"؛ على اعتبار أنّ عام 2000م هو بداية القرن الحادي والعشرين، وكان هذا خطأ تاريخياً. فعام 2000 كان تتمة القرن العشرين، وبدأ القرن الحادي والعشرون مع تباشير صباح الأوّل من يناير/ كانون الثاني 2001. خطأ وقع فيه الكثيرون، لكن لا يهم، يكاد يكون الأمر مجرّد مصطلح!
مرّت أكثر من عشرين سنة كاملة على هذه الصورة، لكن ما قيمة السنوات؟ يكاد يكون الزمن وهماً لا نحسّ بمروره إلا بتأمّل التقاويم (بالمناسبة هناك بحوث علمية حول وهم الزمن!). يضحك أحدهم قائلاً لي: حِسُّ العلوم لديك حاضر حتى مع الذكريات!
(2)
تغيّر في هذه السنوات العشرين الكثير، بما فيها أصحاب هذه الصورة العتيقة، فمِنّا من قضى نحبه ومنا منْ ينتظر. وممّا علمته أنّ الدكتور عبد العظيم العاني، أستاذ مادة الميكانيكا ورئيس القسم، قد مات في غربته بليبيا، فلا حول ولا قوّة إلا بالله. وهناك من الدفعة منْ وجدته على حائط "فيسبوك"، وهناك منْ سمعت عن أخباره، وهناك مَنْ لم أعرف عنه شيئاً. ومن عجائب الدنيا أن يصير المرء مجرّد خبر يتم تناقله، لينتهي هذا الضجيج الذي يُحدِثُه في الحياة بثلاثة أحرف: مات.
(3)
أبحث عن نفسي في الصورة، أنا أوّل الجالسين في الصف الثاني من جهة اليمين، ذلك الشاب الصغير الرأس، إنّه المواطن من هذا البلد المُسمّى اليمن، أو "مواطنٌ بلا وطنْ/ لأنه من اليمنْ"، كما قال شاعرنا عبد الله البردّوني. كان هذا الشطر من الشِعر مجازاً، وها قد صار حقيقة سياسية مُتجسِدَة على الأرض.
قلتُ: أرض، أيُّ أرض؟ أقصد ما تبقّى من الأرض اليمنية المتشظّية تحت وقع الزلازل السياسية المتتابعة. ما أقرب المسافة بين الحقيقة والمجاز في الواقع.
ويلمع في ذهني تساؤل: هل كان العلّامة عبد القاهر الجرجاني، صاحب كتاب "دلائل الإعجاز"، يدرك هذه المسافة الضئيلة بين الحقيقة والمجاز على الواقع؟
يحضرني بيتُ شِعر طريف لأبي العلاء المَعرّي، يقول فيه:
لا تُقَيِّدْ عليّ لفظي، فإنّي / مثلُ غيري، تكلُّمي بالمجازِ.
فهل تكلّم شاعرنا البردوني بالمجاز أيضاً؟ يبدو أنّ حياتنا صارت مجازاً كلّها.
طوّحت الأيام بأحلامنا بعيداً، والواقع أنّها ليست الأيام بل السياسة التي صنعت ما صنعت بأحلامنا وآمالنا
بالعودة إلى الصورة، ذلك كان موقعي، من الصورة وليس من المجاز، ومن حولي زملائي من العراقيين، وهناك يقف في أعلى صفٍّ من جهة اليسار صديقي الفلسطيني إسحاق يوسف الذي يذكرني بالمعلم نونو في رائعة نجيب محفوظ (خان الخليلي)، وهو يقول "ملعون أبو الدنيا"، لكن إسحاق كان يقولها بطريقةٍ أخرى، بلهجته الفلسطينية: دنيا خراء! (أكرمكم الله)..
(4)
ذكرتني عبارةُ "عشرين عاماً" بأغنية الفنان العراقي سعدون جابر: (عشرين عاماً)، وكأني أغني معه:
قل لي ايش جابك عَليْ / وأيش ذكّرك بينا
عشرين عام انقضتْ / وانت اللي ناسينا
شيّبنا شوف الشَّعَر / لونه ايش عمل بينا
ذكرتينا بالزهور / وأيام منسيّة.
مع أنّي لم أكن أسمع له، لكن هذه الأغنية مناسبة للذكرى.
وفي عام 1994 كان الفنان العراقي كاظم الساهر قد بدأ يشق طريقه مطرباً بالفصيح، مع تخلّل ذلك اللون العراقي، خصوصاً ما كتبه له الشاعر الراحل كريم العراقي، لكن الأجمل ما كان من شِعر نِزار قباني، وهذا له حديث في قابل الأيام. كنتُ أقول: في عام 1994، عندما كنتُ في أوّل سنة من سنوات دراستي الجامعية، كانت أجمل أغنية سمعتها لكاظم الساهر هي "يا ليل لا تنتهي"، أيام ما كان تلفزيون الشباب العراقي يبثّها نقلاً عن القنوات العربية بعد إخفاء علامتها. ومن كلماتها:
يا ليل لا تنتهي / توني ابتديت الغزل
لاْرقصْ وأغني وأدقْ / والله لوما الخجل
الجو جميل وشاعري / الله … الله
خليني أمتّع ناظري / يا ليل!
يا ليل توني افرحت / بعد انتظار وملل.
مع أنّ أغنية كاظم الساهر "عبرتْ الشط" كانت قد انتشرت عربياً، لكن لهذه الأغنية ذكرياتها في ذاك الزمان البعيد. بعدها تغنّى كاظم الساهر بشِعر نِزار قباني، وظلّ في محرابه حتى اليوم.
(5)
عودة إلى أبي العلاء المَعرّي في قصيدة المجاز السابقة الذكر، إذ يقول:
وعدَتْنا الأيامُ كلَّ عَجيبٍ / وتَلَوْنَ الوعودَ بالإنجازِ
وأي وعود كانت يا أبا العلاء؟ بل قل: وعيد لا وعود. وقد هالتنا العجائب المتلاحقة، والتي فاقت حدود الخيال، وصنعتْ دستوبيا لم يكتبها حتى كاتب الخيال الغريب، هوارد فيليبس لافكرافت.
هناك دولة موجودة في نفوسنا لم تمسّها النكبات، إنّها دولة الأمل
وبعد عشرين عاماً طوّحت الأيام بأحلامنا بعيداً، والواقع أنّها ليست الأيام، بل السياسة التي صنعت ذلك، هذا من باب الإنصاف حتى لا نحمّل الأيام كلّ كوارثنا.
إنّ الدنيا مسرح كبير، كما يقول شكسبير، وها نحن الممثلين نتابع فصولها المتنوّعة ما بين الملهاة والمأساة، حتى لا نكاد نفرّق بين ملهاتها ومأساتها؛ فهما متداخلتان معاً.
(6)
منْ تبقّى مِنّا؟
ثلاث دول: فلسطين والعراق واليمن؛ دول حضارات (سابقاً)، ونكبات (لاحقاً)، وقد رتبتها على حسب الترتيب الزمني للكوارث: 1948- 2003 -2015. لكن، هناك دولة موجودة في نفوسنا لم تمسّها النكبات، إنّها دولة الأمل الذي لم يخنْ فؤادي يوماً من الأيام؛ الأمل باقٍ لدي ما بقيت الحياة.
يقول الشاعر أحمد مطر:
هلْ عَرى باصِرةَ الأشياءِ حَوْلي الحَوَلُ؟
أمْ عراني الخَبَلُ؟!
لا ..
ولكِنْ خانَني الكُلُّ
وما خانَ فؤادي الأَمَلُ!
**
ما الذي ينقُصُني
مادامَ عِندي الأمَلُ؟
ما الذي يُحزنُني
لو عَبسَ الحاضِرُ لي
وابتسَمَ المُستَقبَلُ؟
أيُّ مَنفى بِحضوري ليسَ يُنفى؟
أيُّ أوطانٍ إذا أرحَلُ لا ترتَحِلُ؟!
**
أنَا وحدي دَوْلَةٌ
مادامَ عِندي الأمَلُ.
دولةٌ أنقى وأرقى
وستبقى
حينَ تَفنى الدُّوَلُ!