في المفاهيم المتضايفة: نجاح العملية وموت المريض!
المفاهيم المتضايفة هي المفاهيم التي يعتمد معنى أحدها، وبالتالي وجوده، على معنى/ وجود مفهوم آخر أو مفاهيم أخرى. فعلى سبيل المثال، لا يمكن وجود أو فهم معنى كلمة/ مفهوم الأب أو الأم من دون فهم معنى كلمة/ مفهوم الابن. والحال ذاته في العلاقة بين مفهومي المطبوخ والنيء، الطبيعة والثقافة، النور والظلام، الحار والبارد، البريء والمتهم أو المدان، إلخ. وعادةً ما يكون ثمّة تراتبٌ في العلاقة بين المفاهيم المتضايفة، بحيث يكون هناك نظرةٌ تقييميةٌ أو معياريةٌ إلى أحد المفهومين المتضايفين على أنّه أفضل، أو أعلى، أو أكثر قيمةٍ من المفهوم الآخر المتضايف معه. وسأركِّز في ما يأتي على مفهومين متضايفين محددين: الانتصار/ الفوز والهزيمة/ الخسارة.
السعي للفوز أو الانتصار يعني، من ناحيةٍ أولى، أنّ هناك إمكانية نظرية على الأقل، لانهزام أو خسارة الطرف الساعي للفوز أو الانتصار، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، أنّ طرفًا آخر سيخسر أو سينهزم في حال نجاح الطرف الأول في مسعاه. ولا يمكن استبعاد احتمال الخسارة، نظريًّا على الأقل. ومحاولة القيام بذلك الاستبعاد بالكامل تعني، في نهاية المطاف، استبعاد إمكانية تحقيق الفوز أو الانتصار. وفي المباريات، كما في المعارك، فوز أحد الطرفين يعني خسارة الطرف الثاني فعليًّا، ووجود إمكانيةٍ، مبدئيةٍ أو نظريةٍ على الأقل، لخسارة الطرف الأول.
على الرغم من بداهة هذه العلاقة بين المفاهيم المتضايفة، ليس نادرًا في المجال السياسي العربي تجاهل المنطق في استخدام تلك المفاهيم. ويبدو أنّ بعض الأطراف السياسية العربية تتصوّر أو تُصوِّر للآخرين أنها ليست مهزومة، ولا يمكن أن تنهزم أصلًا. فهي منتصرةٌ طالما هي موجودةٌ. هذا ما نجده، على سبيل المثال، في سلوك النظام السوري الاستبدادي عام 1967. فرغم الهزيمة المذلِّة حينها، اعتبر نفسه منتصرًا، لأنّه نجح في الاستمرار في السيطرة على مقاليد الحكم. والأمر ذاته حصل بعد ثورة عام 2011، فالنظام السوري الذي يعتبر نفسه ممثلًا الدولة السورية، أو هو الدولة السورية ذاتها، يصرّ على أنّه منتصرٌ دائمًا رغم كلّ الذي حصل للسوريين وللدولة السورية في ظلّ حكمه. فهو منتصرٌ، حتى بعد مقتل مئات الآلاف من السوريين، ونزوح الملايين منهم، ودمار أجزاءٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ من المدن والقرى السورية، وتدهور أوضاع السوريين المعيشية والصحية والاجتماعية إلى دركٍ غير مسبوقٍ، في العصر الحديث على الأقل. وهو منتصرٌ رغم تفتّت الدولة السورية، وتشتّت أفراد الشعب السوري، وتعرّض سورية والنظام الحاكم وأعوانه من المليشيات المحلية والخارجية لقصفٍ متكرّرٍ من "الإمبريالية والصهيونية والرجعية"، لا يملك النظام أمامه إلّا الاحتفاظ بحق الرد، وإطلاق بعض القذائف الخطابية!
المنطق الذي يتبناه النظام السوري هو منطق كلّ ميليشيا جهادية تخوض صراعًا تراه صراعًا وجوديًّا وليس صراعًا سياسيًّا
المنطق الذي يتبناه النظام السوري، في هذا الخصوص، منطق كلّ مليشيا جهادية تخوض صراعًا تراه صراعًا وجوديًّا وليس صراعًا سياسيًّا. ففي مثل هذه الحالة، تظلّ هذه المليشيات منتصرةً طالما أنّها على قيد الحياة. وهذا هو، على سبيل المثال، حال المليشيات الجهادية الداعشية، فهي منتصرةٌ بالضرورة، طالما أنّ "دولة الإسلام باقية" ولو بالشعارات في العالم. ولهذا ما زال بعض الدواعش يتحدثون كما لو أنّهم يحكمون العالم فعلًا، أو سيحكمونه قريبًا بالتأكيد. وهذا هو حال حزب الله وأطراف المقاومة والممانعة عمومًا. فهم منتصرون، طالما أنّهم موجودون.
إنّ تحويل الصراعات أو تحوُّلها إلى صراعاتٍ وجوديةٍ أو أخلاقيةٍ يجعلها تفقد سياسيتها، ويحوّل تلك الصراعات إلى قضايا يمكن التضحية بكلّ شيءٍ، حرفيًّا، في سبيلها. في الصراعات السياسية يكون الهدف نيل الحقوق وتحقيق المطالبات وتلبية الاحتياجات، ويُتخذ هذا الهدف معيارًا لمحاكمة القوى السياسية الحاكمة أو المهيمنة. ويكون بالإمكان إبعاد أو ابتعاد تلك القوى عن السلطة في حال الفشل في تحقيق الأهداف المفترض تحقيقها. في المقابل، لا يتضمن الصراع الوجودي أيّ معيارٍ فعليٍّ للخسارة أو الهزيمة. فمعياره النظري الضمني هو الزوال النهائي لطرفٍ ما. وبما أنّ كلّ الأطراف قادرةٌ على الاستمرار، لدرجةٍ أو لأخرى، وبطريقةٍ أو بأخرى. لا يبدو أنّ ذلك الصراع قابلٌ للحل. والأخطر من ذلك، أنّه يبدو أنّ من الممكن ومن الواجب، عند الضرورة، التضحية بكلّ شيءٍ من أجل استمرار القضية، أي من أجل استمرار الجهة التي تعتبر نفسها طرفًا في صراعٍ وجوديٍّ.
في الصراعات الوجودية/ الأخلاقية المحضة، فكلّ طرفٍ قاتلٌ أو مقتولٌ، وهو منتصرٌ طالما أنّه لم يُقتل
تتبنى حماس المنطق ذاته في مقاومتها أو ممانعتها لإسرائيل. وهذا يجعلها عصيةً على الهزيمة ومستعدةً لإعلان الانتصار على جثث عشرات أو حتى مئات الآلاف من الفلسطينيين. فالقضية أهم من كلّ شيء حتى من عناصرها وأسسها، فهي أهم من الشعب والأرض. ويزداد تجريد القضية من معناها بمقدار زيادة تجريدها النظري وإسباغ الصفة الأخلاقية والوجودية عليها على حساب السمة السياسية. في السياسة ثمّة فوزٌ وخسارة، انتصار وهزيمةٌ، إمكانية للتفاوض والتعايش وانتهاء الصراع. أما في الصراعات الوجودية/ الأخلاقية المحضة، فكلّ طرفٍ قاتلٌ أو مقتولٌ، وهو منتصرٌ طالما أنّه لم يُقتل، وطالما أنّ لديه الإمكانية لقتل الطرف الآخر أو تهديده.
ينبغي لحماس ولغيرها من السلطات الحاكمة الخضوع للمساءلة وأن يكون هناك معيارٌ واضحٌ للحكم عليها ومحاسبتها في حال فشلها من منظور المحكومين. ومن غير المعقول استمرارها في الزعم بنجاحها في كلّ العمليات التي تقوم بها، رغم أنها تفضي إلى موت المرضى/ الشعوب غالبًا. ولا أهمية (كبيرة) للنيّات، في هذا الخصوص. ففي السياسة، العبرة ينبغي أن تكون للنتائج، ويمكن للنيّات أن تلعب دور المخفّف في الحكم، وليس أساس الحكم، ولا سيما عندما يتعلّق الأمر بحياة الناس وحرياتهم وكرامتهم وحقوقهم ومصيرهم. وتحميل السلطات الداخلية، كحماس على سبيل المثال، لا يبرئ، على الإطلاق، السلطات "الخارجية"، كإسرائيل وداعميها، بل يمكن أن يجعل مسؤوليتها مضاعفةً، على الأرجح. ويواجه الفلسطينيون ضحايا هذا الصراع مشكلة عدم تحمّل أي طرف لمسؤولياته عن معاناتهم. وتسهم كلّ الأطراف المعنية، الخارجية والداخلية، في حرمان الفلسطينيين حق تقرير المصير. وفي ظلّ انعدام الحق المذكور، يبدو أنّ معظم الفلسطينيين يواجهون "قدرًا أحمق الخُطى وتسحق هاماتهم خطاه". وفي إطار السعي لإعادة امتلاك مصيرهم، والعمل على نيل الحق في تقريره، ينبغي التخلّي عن تحويل الصراعات السياسية إلى صراعاتٍ وجوديةٍ أو إلى صراعاتٍ أخلاقيةٍ (محضةٍ).