فوبيا التساؤل... عن التفكير أتحدث
يقول المفكر العراقي علي الوردي، في كتابه "مهزلة العقل البشري": "سأل بيري، المستكشف المعروف، رجلاً من الأسكيمو: (بماذا تفكر؟)، فأجابه الرجل: (ليس هنالك داع للتفكير. فعندي كمية وافرة من الطعام)".
وسألت نفسي ذات يوم: لماذا نخاف من التساؤل؟ فاتضح لي أنّه ناتج عن خوفٍ متأصل، أنانية زائدة، الهروب من المواجهة في سبيل الحصول على الاطمئنان الداخلي والراحة النفسية... الخوف من التغيير والدخول في متاهات قد تودي بحياة الإنسان، خوفه من مواجهة المجهول، وألّا يجد أجوبة تشفي غليله، فيظلّ تائهاً بين دهاليز الضياع، إنّه الهروب من أجل البقاء.
رغم المحاولات المتكرّرة من قبل الأديان والفلاسفة للوصول إلى إجابات مقنعة وشافية، إلا إنّها لم تنجح في إقناع العقل البشري أن يكف عن التساؤل، ولا يمكن أن يكفّ ما دامت هناك أسئلة تستفزه من حين لآخر، خصوصًا عندما لا يجد الإمكانات اللازمة للوصول إلى الإجابات.
وإذا ما ذكرنا التساؤلات حريٌ بنا المرور بسقراط، فهو من الشخصيات الأكثر تساؤلًا في عصره، وربما حتى الآن، ولكثرة تساؤله انتهى به المطاف إلى الإعدام بعد محاكمته بتهمة إفساد الشباب والإلحاد. كان سقراط يرى أنّ على الإنسان الإجابة عن مجموعة من الأسئلة بنفسه حتى يصل إلى الحقيقة ويقتنع بها، ولذا كان يطرح أسئلة أكثر مما يجيب. حتى إنّ الكثير من فلاسفة عصره كانوا يتحاشون مواجهته، لأنه كان يستدرجهم بتلك الأسئلة للوصول إلى الإجابات التي يريد قولها، وبهذا يثبت لنا أنّ الإنسان بحاجة إلى الأسئلة أكثر من حاجته إلى سماع الأجوبة.
من أشدّ أنواع الجبن ألا نمتلك الجرأة على محاكمة ما نؤمن به، أن نكبح عقولنا من خلال إشباعها بأجوبة جاهزة
ومن وجهة نظري، أرى أنّ الإنسان ليس سوى مجموعة أسئلة، ما إن يكف عن طرحها على نفسه حتى يتساوى مع بقية الحيوانات، رغم شكّي الكبير بأنّ الحيوانات أيضًا تتساءل من وقت لآخر في أشياء خارج نمط حياتها.
إنه لمن أشدّ أنواع الجبن ألا نمتلك الجرأة على محاكمة ما نؤمن به، أن نكبح عقولنا من خلال إشباعها بأجوبة جاهزة، وأن تظلّ عقولنا متخمة بتساؤلاتٍ كثيرةٍ ونتجاهلها بكلّ بساطة.
أما الجميل في التساؤل أنّه يبعث فينا الفضول لمعرفة أشياء جديدة، الدخول في مغامرة، يجعلنا في دهشة مستمرة. وكما يقول المفكر المصري مصطفى حجازي، فـ"إن الفكر المبدع هو ذلك الذي يخرج عن الطرق المعبّدة، ويكسر قيود العادة والسير على خطى الأولين. إنه الفكر الذي يتجاسر على التساؤل حول كلّ شيء، ويخوض في مغامرة تصوّر أيّ شيء، رافعاً شعار (لمَ لا؟ دعونا نحاول)".
أليس من الحكمة أن نقرأ ما يستفز عقولنا، نتساءل دون خوف، أن نبقي الطفل الذي بداخلنا حيّاً على الدوام؛ حتى نحكم على الأمور بإنصاف، كي نرى العملة بكلتا وجهيها. ثم وماذا يبقى لنا من إنسانيتنا المميزة بالعقل والتفكير إذا أعفينا أنفسنا من التساؤلات؟ ولا ننسى أنّ الإنسان ما زال في خير ما دام يسأل.