أدب الصحيفة وأدب السوشيال ميديا
في إحدى المقابلات التلفزيونية للأديب المصري الراحل، نجيب محفوظ، قال عن أول المقالات التي كتبها، فيما معناه: "أرسلتُ مقالاً إلى الجريدة الفلانية وأخبرتهم بأني من طرف فلان حتى يقبلوا مقالي".
كانت الجرائد حينها لا تقبل إلا مَن لهم باع في عالم الكتابة، وإخطار نجيب محفوظ إدارة الجريدة بأنه من طرف فلان كان إثباتاً لهم بأنه مستوفٍ للشروط التي يطلبونها.
لو أنّ نجيب محفوظ عاش في عصرنا هذا لما كان بحاجة إلى توصية من شخص آخر حتى ينشر مع الصحيفة الفلانية، ولقام بإنشاء صفحته الخاصة على إحدى منصات التواصل الاجتماعية ونشر ما يريد قوله، ولربما وصل لجمهور أكثر مما ستصل إليه الصحيفة التي سينشر معها.
حريٌ بنا القول إنه مع ثورة الإنترنت وانتشار مواقع التواصل الاجتماعية، أصبحت مسألة النشر أمراً سهلاً، حيث وفّرت للكتّاب وسيلة سهلة من خلالها يمكنهم الوصول إلى جمهور عريض والترويج لما يكتبونه بأقل التكاليف.
كما لا ينكر أحد أنّ مواقع التواصل الاجتماعية استطاعت إبراز كتّاب لم نسمع أصواتهم من قبل، عرّفتنا بوجوه جديدة وأقلام بارزة، أتاحت للكثير مساحة واسعة من الحرية في النشر؛ فيمكن للكاتب أن ينشر في الوقت الذي يريد، وعن المواضيع التي يريدها دون انتظار الموافقة من هيئة تحرير أو جهة معينة، وهذه من جهة تُحسب لها لا عليها.
على الرغم من فوائد الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعية الكثيرة التي وفرتها للكتّاب والأدباء، فإنها في الطرف الآخر أحدثت شرخاً كبيراً في الإنتاج الأدبي وجودته؛ سهولة النشر زادت من كمية المقالات الخاوية والعناوين الصفراء، وكأنّ من يكتبون كلّ غرضهم هو نشر أكبر قدر ممكن من النصوص للحفاظ على قاعدة الجماهير وتوسيعها، وهذا جعلنا نرى نصوصاً هشة وتفاهات كثيرة لا تُحتمل.
سهولة الوصول إلى ما يكتبه الآخرون والحصول على المعلومة دون عناء خلقا أناساً يحاولون جاهدين إلباس أنفسهم ثوب الكاتب المتمكّن والمدوّن الفذّ
سهولة الوصول وتهافت بعض منصات النشر أعطت صفة كاتب لأناس كُثُر لا يستحقونها؛ يتعاملون مع الكتابة على أنها مجرد موضة أو وسيلة لنيل رضا جماعة أو زمرة من الناس، والمؤسف أنّ الغالبية ممن يبدون آراءهم في ما تجري كتابته ليسوا بقراء أو نقاد ولا يميزون الكاتب الجيد عن غيره، ولو لاحظتم فالميزان الحالي الذي يتخذه غالبية الجمهور لتمييز الكاتب المتمكن عن غيره هو عدد المعجبين به على مواقع التواصل الاجتماعية، هكذا أصبح الكاتب ليس بكاتب، والمفكر ليس بمفكر، والناقد أصبح وصفاً يلبسه كلّ عابر.
أيضاً من السلبيات التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعية في الأدب هو عدم تقنين النشر على هذه المواقع، فسهولة الوصول إلى ما يكتبه الآخرون والحصول على المعلومة دون عناء خلقا أناساً يحاولون جاهدين إلباس أنفسهم ثوب الكاتب المتمكّن والمدوّن الفذّ، حتى وإن كلفهم ذلك سرقة أعمال البقية، كما حصل مع الكثير من المؤلفات، ومنها روايتي "دموع مقدسة" التي سُرقت ونُشرت تحت عنوان آخر.
أما لو أتينا إلى ما فعلته ثورة الإنترنت والسوشيال ميديا بالناقد، والذي كان يُمثل دور المحكمة في الأدب، فيمكننا القول إنه أصبح مُداناً ورأيه لا يُميّز عن بقية الآراء كما كان سابقاً.
أخيراً وليس آخراً، عجلة التقدم مستمرة ولا يمكننا إيقافها، ولكن يمكننا تقنينها. يجب علينا إدراك أنّ الخلود لا يأتي لمن يركب الأمواج الوهمية أو من يضع سنارته في أقرب شاطئ، وينتظر أول سمكة لتقضمها.
الوصول إلى عقول الآخرين يتطلب أصالة، والأصالة كلمة لا يعرف معناها إلا من كانت لديه أخلاق الكبار وهمّة العظماء، أما طالبوا الشهرة الآنية والظهور الرخيص فأوّل عاصفة كفيلة برميهم إلى الشاطئ ليموتوا مدفونين تحت رمل البحر.