فشة خلق.. العرافة وسيادته وتخدير الشعب
من منّا كسوريين، لا يتذكر أولئك المحللين الاستراتيجيين ذوي المقولات والحركات البلهاء، والذين ظهروا في بداية الحرب، من المُبشّر العظيم، مطلق كلمة "خلصت"، إلى صاحب "الفلاشة"، وصولاً إلى عضو مجلس الشعب، بجملته المشهورة "لاحظي سيدتي" ونظرياته المضحكة عن المربعات والمثلثات.. يومها كان هؤلاء أسياد الإعلام السوري الرسمي.
ولكن الآن، بات معظمنا يدرك أنهم ليسوا أكثر من "أراجوزات" استُخدموا لعقودٍ طويلة في تسويق شعارات النظام ذات العناوين المخدّرة، منذ "أمة عربية واحدة" حتى "المؤامرة الكونية"، تلك الشعارات التي احتاج رسوخها في عقولنا فترة من الزمن، مثلها مثل هذه الشخصيات الهزلية، لضمان استمرار خديعة الصمود والتصدي. ولكن، انفضاح الحقائق المغيّبة عن هرمية سلاسل الفساد المقصود وانكشاف أكذوبة الإصلاح، أظهر أنّ هؤلاء "الاستراتيجيين" مجرّد أبواق للنفاق، وانقلبت الآية إلى ردّة فعل قاسية جعلتهم مثاراً للتندّر وإطلاق النكات. كما أنّنا كجمهور مصفّق سابقاً، أصبحنا نقوم بتغيير القناة التلفزيونية عند ظهورهم عليها، لينتهي الأمر بانعدام تأثيرهم بشكل كلي، وهنا تبدأ الحكاية.
تقول الحكاية..
عرافة مشهورة حسناء، تطلق على نفسها "عالمة الأحرف والأرقام والأسماء والأبراج وعلم الطاقة"، ظهرت في بثّ مباشر على صفحتها لتُنذر بحساباتها الفلكية عن اصطفاف الكواكب والنجوم في مواقع معينة، وهذا يجلب فألاً سيئاً ويُنذر بكربٍ عظيمٍ في قادم الأيام. وهنا دبّ الرعب في قلوب الناس وبدأت الإشاعات بالانتشار عن حدوث زلزالٍ ثانٍ.
بعض العقلاء من المثقفين استنكروا الأمر، وساءهم أن تصبح خُرافة العرّافين هي من تحدّد توّجه الناس، فكتب بعضهم على وسائل التواصل يستنكرون نشرها لهذه الترهات دون رادع كما ينص القانون السوري حسب المادة / 754/ من قانون العقوبات نصّاً: "يعاقب بالحبس التكديري، وبالغرامة كلّ من يتعاطى "بقصد الربح" مناجاة الأرواح والتنويم المغناطيسي والتنجيم وقراءة الكف وورق اللعب وكلّ ماله علاقة بعلم الغيب".
علينا الاعتراف بأنّ النظام السوري، أجاد رواية "الكذبة" وإقناع الشعب بتصديق مجرياتها مجدّداً
لكن، وبدلاً من أن يتم إيقافها ومعاقبتها، كانت المفاجأة أنها عاقبت كلّ الذين كتبوا على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، منتقدين وغاضبين من خزعبلاتها وتنبؤاتها المنافية للعقل والمنطق، لا بل إنها بلغت من الصفاقة في بثّها المباشر، حدّ التفاخر الفاجر بتقديمهم للقضاء وإجبارهم على الاعتذار علنا، وهذا أقل ما ترضاه، كما عبّرت.
نكمل الحكاية..
هذه العرافة، تشرح في أحد منشوراتها، وبكلّ فخر وإطناب، عن نيلها شرف الاتصال من شخص مسؤول دعته "سيادتكم". هذا "السيادته"، اتصل فقط ليقول إنها تستحق الشكر على المعلومات المقدّمة من قبلها في بثّها التنبؤي عن الحظ والأبراج الذي استمر لمدّة ساعتين تقريباً. ولكن المفاجأة الأشدّ صدمة، تمثلت بتصريحها الفجّ، وبكلّ خيلاء وغرور، أنّ ظهورها وإطلاقها لهذه الترهات التنبؤية لا يكون من رأسها أبداً، أنما بعد تلقيها "أمراً" بذلك.
قبل أن تتساءلوا ما الرابط بين هذه العرافة وهؤلاء المحلّلين سنجيبكم: هي نفس الحكاية، ولكن بأسلوب آخر وسرد مختلف، حكاية علينا الاعتراف أنّ النظام السوري، أجاد روايتها وإقناع الشعب بتصديق مجرياتها مجدّداً، وأيضاً قبل أن تطلبوا.. سنشرح كيف.
لم تكن إشاعة الزلزال تلك سوى أحد الأوامر الصادرة لها لهدف واضح تماماً، فغليان الشعب وضجيجه كان على أشدّه لأسابيع بعد كارثة الزلزال، ليس بسبب ضعف المساعدات الحكومية وعدم اكتراث "القيادة الحكيمة"؛ بل من انعدامها تماماً، واقتصار الأمر على بعض التصريحات السياسية اللائمة لكلّ دول الأرض، مع بعض المناشدات المخجلة لاستجداء المساعدات التي نهبت وتبخرت دون أن يظهر لها أي أثر. وهذا التنبّؤ الخطير من تلك العرّافة العظيمة، أفرغ كلّ احتقان الشعب وأنساه كلامه وغضبه من كلّ التقصير واللامبالاة والسرقات.
تنتهي الحكاية، ولم يعد الشعب يسمع المحللين السياسيين والاستراتيجيين أو المنظرين، فهو لم يعد يصدقهم، لذا تمّ استبدالهم بالمتنبئين والعرافات.. والشعب يصدقهم!