اقتصرت الأضرار على كرامتنا
شريط أحمر عاجل في أسفل القنوات السورية "وسائط دفاعنا الجوي تتصدى الآن لعدوان"، كان هذا الخبر يهز أقاصي سورية لندرة حصوله. في الماضي كان بالسنوات، ثم أصبح شهرياً، وبعدها صار شبه أسبوعي. وهذا العام 2023 تم استهداف أغلب المحافظات السورية: دمشق - طرطوس - اللاذقية - حمص - حماه - القنيطرة – حلب، حيث بلغ عدد الغارات الإسرائيلية حتى منتصف الشهر السادس 15 غارة. ومع أن النظام السوري لم يتجرأ على الرد ولو بطلقة، لكنه يصر على انتصاره بعد كل قصف مستخدماً في كل مرة وعبر سنين طويلة نفس الخطوات.
بعد ساعات من هذا "العاجل" يصدر بيان رسمي من وزارة الدفاع يحدد فيه المكان أو النقطة المستهدفة ووقت القصف بدقة مع التأكيد أن معظم الصواريخ المعادية تم إسقاطها. ثم يذيل بعبارة "واقتصرت الأضرار على الماديات". في صباح اليوم التالي تصدر وزارة الخارجية بياناً آخر تطيل التحدث فيه عن الظروف الدولية والإقليمية وتشرح باستفاضة مملة عن الظروف السياسية العربية والمؤامرة الكونية على سورية، والختام يكون برسالتين متطابقتين إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. والكلمات الأخيرة عن الرسائل المتطابقة جاءت بدلاً عن العبارة الأشهر التي حفظها الشعب السوري بشيبه منذ أن كان في شبابه، وأصبحت مثاراً للسخرية والتهكم ألا وهي "سيكون الرد في الزمان والمكان المناسبين".
بعد هذه البيانات الأسطورية يبدأ دور إعلاميي النظام من "الطبيلة والدبيكة" بمقابلاتهم التلفزيونية "الخوارية"، ليست خطأ مطبعياً؛ النقطة في مكانها الصحيح، مع مطبلي جبهة الممانعة الذين يطنبون في الكلام عن البعد الاستراتيجية لسياسة كظم الغيظ عند القيادة السورية وحنكتها الخارقة في عدم الرد والوقوع في فخ استدراج العدو لها، حتى يصل بهم الأمر نتيجة تشجيع الإعلامي المحاور إلى قمة الحماس ويبدؤون بنظرياتهم المزرية عن الأزمة الكارثية للعدو ومشاكله الداخلية التي يريد الهروب منها بتصديرها للنظام، فينقلب القصف من اعتداء على سورية إلى انتصار عظيم لها.
لا شيء مما سبق يجهله السوريون بشقيهم الموالي والمعارض، وصفحاتهم على مختلف مواقع التواصل تظهر تهكمهم وسخريتهم من تلك البيانات الرسمية وما يلحقها من مقابلات تلفزيونية وبطولات فيسبوكية لأزلام النظام. كما أن بعض المثقفين والصحافيين "من الطرفين أيضاً" يفندون هذه الترهات المفضوحة، ويشرحون كيف تمت إصابة المعدات العسكرية أو المنشآت المستهدفة بدقة متناهية، بدليل أنه بعد أيام فقط سيتفاخر النظام بعظمة إنجازه في سرعة إعادتها إلى الخدمة "كما حصل في قصف مطار حلب"، بعدها ستضج قرى الساحل "للأسف الشديد" بصور وأسماء الشهداء "الرحمة لأرواحهم" الذين قضوا نتيجة العدوان بعد إرسال نعوشهم إلى ذويهم مصحوبة بأكاليل الزهور المقدمة من القيادة. وهذه النتائج تثبت على أرض الواقع أنه لم يتم إسقاط معظم الصواريخ حسب الادعاء؛ إنما بعضها فقط.
الموالون يتساءلون بمرارة وقهر عن سبب إرسال قوات ضخمة بسلاح ميداني كامل لاعتقال أي مواطن كتب منشوراً "فيسبوكياً" محتجاً على ضنك العيش بلا كهرباء أو ماء
ولا يجهل السوريون أيضاً؛ أو بالأحرى هم موقنون تماماً، أن النظام لن يرد على هذه الانتهاكات مهما تعاظمت شدتها أو تقلصت مدتها. صحيح أن لكل من الموالاة والمعارضة نظريات مختلفة عن أسباب عدم الرد، لكنهما متوافقان في هذه القناعة حالياً. وليس هذا ما يؤلمهم. الأمر يتعدى ذلك إلى ما هو أعمق بكثير.
فالموالون يتساءلون بمرارة وقهر عن سبب إرسال قوات ضخمة بسلاح ميداني كامل لاعتقال أي مواطن كتب منشوراً "فيسبوكياً" محتجاً على ضنك العيش بلا كهرباء أو ماء، أو عن ارتفاع أسطوري للأسعار وتضخم فاق التخيلات، أو حتى تعليقاً بسيطاً ينتقد فيه فساد أصغر مسؤولي النظام السوري. مع حكم قضائي قد يصل حتى خمسة عشر عاماً بتهمة وهن نفسية الأمة. بينما يعتبر جمهور المعارضة أن استخدام كل تلك القوة العسكرية الضاربة من الدبابات والطائرات لقصف الأحياء المدنية، وما تتسبب به من إزهاق لأرواح النساء والأطفال بحجة أنهم البيئة الحاضنة للمسلحين ليس إلا إظهاراً كاذباً للقوة في سبيل إخفاء جبنه أمام العدو الحقيقي.
والطرفان؛ كسوريين تغضبهما ردة فعله المبالغ في قسوتها وسرعتها عليهم، بينما يكون في قمة الخنوع والضعف المذل بعد تلقيه كل تلك الضربات. وهذا بالتحديد ما يوحدهم، فمحبتهم لوطنهم وشعورهم الصافي بالغيرة علي، تجعلهما في قمة الاستياء من نظام يرون أنه بالغ في الحط من كرامتهم. ولعل تلك الجملة التي يذيل بها بيانه هي دليل حي على الهوة العميقة بين النظام وشعبه، فهو يصرح مفاخراً - اقتصرت الأضرار على الماديات - بينما يصرخ السوريون: بل اقتصرت الأضرار على كرامتنا.