فازت فلسطين في مونديال قطر... ولكن؟
سجل حضور القضية الفلسطينية في مونديال قطر أحد العلامات الفارقة في تاريخ الحدث الرياضي العالمي، والذي لطالما حازت فيه أصداء اللقاءات الكروية وصور المشجعات الفاتنات والمناوشات التي تحصل بين جماهير فريق وآخر على اهتمام الإعلام. لكن هذه المرّة برز الصراع العربي الإسرائيلي ضمن أبرز الأحداث التي تناولتها الصحافة الغربية، وذلك بسبب موجة الدعم التي حازتها فلسطين داخل الملاعب وخارجها. وهنا يمكننا القول إنّ الجمهور العربي قد تمكن من إيصال رسائل قوية إلى المجتمع الغربي، يمكن اختصارها في أنّ القضية الفلسطينية لم تمت، وأنّ الصراع العربي الإسرائيلي لم يحسم حتى مع وجود اتفاقية أبراهام التي تعني القيادات لا الشعوب.
في المقابل، باءت محاولات إسرائيل الإعلامية بالفشل عندما حاولت أن تسوّق من خلال إعلامها الموجود في الدوحة، بأنّ الجيل العربي الجديد يختلف عن الجيل السابق، ولا يتحمّس للقضية الفلسطينية، ويتقبّل إسرائيل كأمر واقع، ليتوّصل الإعلام الإسرائيلي في النهاية إلى حقيقة مفادها أنّ انتكاسة الموقف العربي الرسمي تجاه فلسطين، وتوّجه بعض الأنظمة لتطبيع علاقاتها قبل إحلال عملية السلام، لا تعني بأيّ شكل من الأشكال أنّ إسرائيل باتت من دون أعداء، وأن عملية السلام مع الشعوب العربية فاشلة وبامتياز.
وتمكن مونديال قطر من إعادة الزخم للقضية الفلسطينية بعد أن كادت تصبح نسيا منسيا في ظلّ التفوق الإعلامي الإسرائيلي الذي نجح في قلب المفاهيم وسوّق لعداء العرب لليهود، على أنّه معاداة للسامية، كما نجح في إعطاء شحنة معنوية قوية للفلسطينيين الذين تأكدوا بأنّ الحكام العرب، وإن تناسى بعضهم قضيتهم، فإن الشعوب لا تزال تحملها، ولا تتوانى عن تقديم الدعم لها في المناسبات الكبيرة.
لقد شكّل المونديال فرصة كبيرة للعرب كي يظهروا تآزرهم خلف قضية أنهكها الانقسام الداخلي وضعف المواقف العربية الرسمية في المحافل الدولية التي لا يسمع فيها صوت فلسطين إلا من أجل رفع العتب.
شكّل المونديال فرصة كبيرة للعرب كي يظهروا تآزرهم خلف قضية أنهكها الانقسام الداخلي وضعف المواقف العربية الرسمية في المحافل الدولية
غابت أوكرانيا وحضرت فلسطين، على الرغم من أنّ الغرب حاول، مراراً وتكراراً، تمرير رسائل سياسية في مباريات دوري أبطال أوروبا، ولكن لم تسمح الفرصة هذه المرّة بأن يتم تمرير رسائل عن الحرب في هذا المحفل الكروي الكبير، وهو ما قد يفسّر النفاق الغربي، حيث انتشرت الأعلام الفلسطينية بشكل عفوي وجعلت من فلسطين المنتخب الثالث والثلاثين المشارك في المونديال، ومشاركاً في جميع المباريات بدعم عربي منقطع النظير، داخل الملاعب وخارجها.
تحتاج العاطفة أيضا إلى الكثير من الواقعية، ولذلك تحتاج القضية الفلسطينية إلى المزيد من الدعم ما بعد المونديال، إذ لا ينبغي أن ينتهي هذا الدعم بمجرّد إسدال الستار على هذه البطولة. يحتاج العرب إلى خطوات فعلية لدعم فلسطين، سواء من خلال الدعم الثقافي أو السياسي في المؤتمرات والندوات، أو من خلال الكتابات لتقريب الرواية الفلسطينية من أذهان المشاهد الغربي. وهنا نقصد ألا يترك المجال لإسرائيل باستغلال الصمت العربي من أجل ممارسة انتهاكاتها بدون حسيب أو رقيب، فكما كانت الصورة حاضرة، وبقوة، خلال مونديال قطر، يجب أن تستمر بعد المونديال، وأن يعمل الإعلاميون العرب على المزيد من الدعم تماماً، مثل ما يفعل الإسرائيليون مع دولتهم، فالصورة والكلمة في عصر التكنولوجيا كفيلتان بإحياء القضية.
تحتاج القضية الفلسطينية إلى المزيد من الدعم ما بعد المونديال، إذ لا ينبغي أن ينتهي هذا الدعم بمجرّد إسدال الستار على هذه البطولة
الواقعية تقتضي أيضا الاعتراف بأنّ إسرائيل لم تنجح في البقاء بمنظومتها العسكرية والإعلامية، بل من خلال الاستثمار في البحث العلمي والنظام التعليمي وإعطاء الدعم للبحوث الطبية والتكنولوجية والحربية، وحتى في الديمقراطية. لا يمكن أن يكون الدعم المعنوي هو الركيزة الوحيدة التي يرتكز عليها العرب في دعمهم لفلسطين، بل يجب أن يصلوا إلى بناء تحالف اقتصادي بعيداً عن الخلافات السياسية القائمة، وأن يحاولوا من خلاله فرض كلمتهم في العالم، تماماً مثلما فعلوا في حرب 73، وأن يدعموا التعليم الذي يمثل الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الدول القوية، من دون ذلك سيبقى الدعم للقضية منقوصاً من أهم الأشياء التي من الممكن أن تحدث الفرق.
ربما استطعنا هذه المرّة هزيمة إسرائيل في كأس العالم بنصر معنوي للعلم الفلسطيني، ولكننا في الحقيقة بعيدون جداً عن هزيمتها في ظلّ التبعية الاقتصادية للقوى الإمبريالية التي تدعمها، وبفعل انهيار منظومة التعليم وضعف العدالة وتهديد الأمن الغذائي والشخصي، في أغلب الأقطار العربية. فهل سيستفيق العرب ويتجهون نحو العمل بجدّ لمجاراة الأمم القوية، أم إنّ سباتهم العميق سيستمر لعقود أخرى؟