غير جيد "ني خَرَاشُو" هالأخو ناتاشا

20 فبراير 2022
+ الخط -

كان لي صديق يحب روسيا والاتحاد السوفييتي، وهو على سروج خيله في ثمانينيات القرن الماضي كما يقال، ويعشق الأدب الروسي، ورموزه من دوستويفسكي إلى تشيخوف وبوشكين، ويضع صورهم في البيت..

جاءهم ضيفٌ ذات يومٍ، ورأى صورة دوستويفسكي، وسأله عن صاحب الصورة الذي ينضح طيبةً ويفيض نوراً، ضحك صديقي قائلاً : إنه جدي. صديقي كان يعتبر الروس أعظم شعب، وأكبر صديق للعرب، وأفضل نصير للشعوب المستعبَدة بفتح الباء، فالروس والسوفييت إبان حلف وارسو البائد وقفوا بالمرصاد أمام تغوّل حلف الناتو، ولولا الاتحاد السوفييتي، وحلف وارسو لأكل الغرب الدول الفقيرة بلا ملح كما يرى.

ومن شدّة حبّه للروس أحبَّ لغتهم، وحاول أن يتعلمها، واستطاع أن يتواصل مع الخبراء الروس الذين يلتقيهم أحياناً على شطّ الفرات، بحكم عملهم هناك في مشاريع سدّ الفرات، ومرةً رأى واحداً منهم، وهو يصيد السمك، فأراد أن يجرّب ما تعلم من اللغة الروسية، وبعد السلام قال له: يِسِتْ رِيْبي؟ أي: أيوجد سمك؟

رفع الخبير سنارته من الماء، وقد علقت بها بعض الأعشاب والحشائش، وقال ضاحكاً : هشيش..هشيش.

ووصل عشق صديقي لموسكو إلى درجة أنها أصبحت حلماً يراوده آناء الليل، وأطراف النهار، فهو يطمح لأن يدرس هناك، ويختص بالإخراج السينمائي. حدّد المعهد الذي سوف يلتحق به، وهو كما ذكر معهد (فغيك) الذي يضم إرث سيرغي إيزنشتاين صاحب الفيلم الرائع (المدرعة بوتمكين) الصامت، الذي يعتبر واحداً من أفضل عشرة أفلام عالمية في تاريخ السينما.

أقول لصديقي: ولا تنسَ ما يحدث الآن في أوكرانيا، وبدلاً من أن يواجه الغرب هناك أرسل وزير دفاعه إلى سورية

للأسف لم يتحقق حلم صديقي بالدراسة هناك، لأنه كما قال غير مدعوم، ولا يملك مالاً، ليدرس على حسابه، ومع أنه اقتنع في ما بعد، ودرس اختصاصاً آخرَ في بلده. كنت أعزيه، وأخفف عنه، وأقول : جميل أنك ما درست الإخراج السينمائي، لأنك لن تستطيع أن تخرج، ولا حتى لقطةً واحدةً. كل ما هناك أنك ستسجل في المؤسسة العامة للسينما في دمشق، وتنتظر مع العشرات إن لم يكن مع المئات، لتنال فرصة إخراج فيلم، وأظن أن هذه الفرصة لن تأتي، لأن ميزانية المؤسسة مرصودة لبعض المخرجين من عظام الرقبة، وهم يستأثرون بكل شيء. تصوّرْ صديقي أن ترتيب وتزبيط أنف فايز قزق في فيلم (رسائل شفهية) كلّف ما يفوق ميزانية أربعة أفلام، إن لم يكن أكثر من ذلك!

أعجب صديقي بكلامي وقال: فعلاً جميل أنني لم أتورّط، وأدرس الإخراج السينمائي، لأنني كنت سأشحذ، وأموت جوعاً وقهراً من مروان حداد مدير مؤسسة السينما، وعبد اللطيف عبد الحميد، وأنف فايز قزق.

بقي صديقي عاشقاً للروس، مستميتاً بالدفاع عنهم، ولم يكن يصدق ما ينشر، عن اشتراكية الجوع والفساد، والنظام الشمولي، ودعم أنظمة القمع في العالم، حتى السقوط المدوّي، وتفكك الاتحاد في تسعينيات القرن الماضي، وعند ذلك تحوّل عشقه إلى نوع من الكراهية، مع أنه بقي مُحبّاً للأدب الروسي، وخاصة دوستويفسكي. كان يصف نفسه بقلة الإدراك السياسي، ويقول: كيف لم أعِ حقيقة السوفييت، ونظامهم القمعي، وتجويعه الشعب؟

كنت أحسب النظام هناك جيداً (خراشو) لكن طلع غير جيد (ني خراشو). أقول لصديقي: ألا تذكر عندما كنت أقول لك: مَن ذهب إلى روسيا من الطلاب والتجار أصيب بالصدمة، وكلهم تحدثوا عن الفقر والجوع والفساد، وأعرف مناضلاً صنديداً أرسله الحزب الشيوعي إلى موسكو، ليلتحق بدورة للكوادر لستة أشهر، وعندما انتهت الدورة عاد، وترك الحزب بسبب ما رآه من أهوال وفساد هناك، وأكثر من ذلك كان أي زائر لموسكو يشتري ذمة من يشاء ببنطال جينز، أو علبة سجائر.

كنت ترد علي بقولك: إنها المؤامرات، والحصار الغربي.

أقول لصديقي: أين أصبح الاتحاد السوفييتي ووريثته روسيا، وأين القيم والمثل التي كان ينادي بها؟

أين نصير الشعوب المستعبَدة بفتح الباء، ممّا يحدث اليوم؟

يجيب: (هالأخو ناتاشا) رجل المخابرات (كي جي بي) دمّر سورية، وجعلها ساحة تدريب لقواته، وأسلحته الفتاكة، وأرسل مرتزقة (فاغنر) إلينا، واستطاع أن يبرز كقوة عظمى على أشلاء أطفال سورية. القيم والمثل كلها كانت كذباً، وكم كنا مخدوعين بهم عندما يقولون: (دا مير .. ني فاينا) أي: نعم للسلام .. لا للحرب.

كانوا يتغنون بالسلام، وضرورة إرساء العدالة، وقيم الحق والخير والجمال، حتى محطة الفضاء عندهم اسمها محطة السلام (مير)، فكيف خرج هالأخو ناتاشا من صلبهم.

أقول لصديقي: ولا تنسَ ما يحدث الآن في أوكرانيا، وبدلاً من أن يواجه الغرب هناك أرسل وزير دفاعه إلى سورية.

يعني: إذا العرس في أوكرانيا، لم يرسل طبّاله إلى سورية، ويقوم بمناورات ضخمة، والأنكى من ذلك أنه أسقط مروحيةً سوريةً عن طريق الخطأ؟ وكأن وطننا أصبح ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية!

06F7E7A3-29C2-443B-8759-A2FE88B69CD1
حسام الدين الفرا

شاعر وكاتب ومدرس لغة عربية من سورية