غزّة وزمن الانحطاط العربي

06 فبراير 2024
+ الخط -

في أيّ زمن، وأيّ مكان، في أيّ تاريخ أو جغرافيا، في أيّ احتلال أو استعمار أو هيمنة، في أيّ حقبة أو فترة، لم يكن ليعيش العربُ حدثًا أذلّ ممّا يعيشونه اليوم حول ما يحصل في غزّة، حتى إنّ الخيال العربيّ الجمعيّ لم يكن ليصل إلى تصوّر إهانة جماعية بذلك الحجم، وإلى ذلك العمق، وإلى تلك الأبعاد، ولم تكن تعرف كثيرٌ من الشعوب العربية سليبة الحقوق، ومعدمة المعيشة، ومحرومة الحرية، أنّ حكامها (المكروهين بالسليقة) هم بذلك الحجم من الدناءة في التعاطي مع الدماء والأشلاء العربية المجاورة على بُعد أمتارٍ فقط، عن الحدود، أو عن التلفاز، أو عن اتخاذِ قرار.

هؤلاء العرب الذين عاشوا ما عاشوه من قمعٍ واضطهادٍ وفقرٍ وحصارٍ وسجونٍ وتكبيل، وقاسوا المرار كلّه على يد ديكتاتورييهم الفشلة، لم يتصوّروا أن تُعامل غزّة مثلهم، هذه غزّة، وليست شعبك! وقد مثّل هؤلاء، حتى أمامنا، أن هناك مشهدًا ليس مبتذلًا، ولا حقيرًا، إلى حدّ الغوص في الدماء دون حركة أو تلميح أو تصريح إلى أيّ عداوة تجاه إسرائيل، حتى اضطرت الشعوب المقهورة، منذ الماضي إلى الحاضر، إلى التحسّر على ديكتاتورييها السابقين، الذين كانوا ظلمة وقتلة ولصوصًا، لكن كانت لديهم حنكةٌ ما، بقيةٌ ما، من خجلٍ ودم، تدفعهم إلى رفضِ تجويع غزّة إلى درجة أكل ورق الشجر وطهو الحجر!

نحو ثلاثين ألف شهيد في غزّة، وأكثر من ستين ألف جريح، ومائة وثلاثة وعشرون يومًا، وغزّة هي غزّة، وجيرانها جيرانها، والعرب هم العرب، لم يتحرّك أحد، لم يتحدث أحد، لم يعطّل أحد حياته اليومية التافهة، ورغباته ونزواته القمعية المريضة، واستعراضاته الوهمية، للوقوف موقف رجل في ساعة عسرة، حتى ولو كان أجهل الرجال وأخسّهم؛ فمن أين جاؤوا بهذا المستوى؟ نحو عشرة آلاف جريح مهدّدون بفقدان حياتهم تمامًا إن لم يخرجوا للعلاج بسرعة، ونحو مليوني إنسان مهدّدون بالموتِ جوعًا إن لم يغاثوا بالطحين بسرعة، وستون ألف جريح وآلاف المرضى والحوامل مهدّدون بفقدان كلّ شيء إن لم يدخل لهم الوقود بسرعة، ومع ذلك كلّه، فإنهم يُتركون ببطء، للقاءِ مصيرهم الحتميّ، الذي لم يكن ليبقى حتميًّا في ظرفٍ آخر، وفي زمنٍ آخر، وحتى في حربٍ أخرى!

تقتلهم إسرائيل في غزّة، ويكمل عليهم القاتل الكامن خلف السياج الفاصل، الأكثر تواطؤًا وجبنًا ونذالة من أن يترك سيارة إسعاف تعبر، أو شاحنة وقود تدخل

تقتلهم إسرائيل في غزّة، ويكمل عليهم القاتل الكامن خلف السياج الفاصل، الأكثر تواطؤًا وجبنًا ونذالة من أن يترك سيارة إسعاف تعبر، أو شاحنة وقود تدخل، أو قافلة مساعدات تمرّ؛ وذلك الغزاويّ الحزين المبتلى بأقسى أنواع الآلام بين القتل والخيانة، بعدما فقد كلّ ما يملك، من بيت وأهل وأحباب وعمر ومال، يساوَم من قبَل سماسرة الدم والحياة على ما بقي من شقا عمره أو ما بقي لدى أهله في الخارج من مال، ليدفع عشرة آلاف دولار مقابل حياةٍ واحدة؛ بينما يقبض المجرمون الثمن، وهم الذين أجبروه على الاضطرار حتى إلى دفعه، ولولا هؤلاء لَما دفع، ولو ربعه، ولا فقد نصف ما فقده، ولكنها الخيانة العربية في أبشع صورها!

إحدى وعشرون دولة، طولًا وعرضًا، بكلّ ما تملك من ثروات وكنوز وقرارات وسيادة وجيوش وتاريخ، تعجز عن إدخال كوب مياه لطفل يلهث عطشًا، ويجبن البوابُ الحارس عن تحمّل رؤية وجوه أطفال غزّة، فيبني بعد الجدار جدارًا من حجرِ كقلبه، لأنّه لا يضمن تأثر قلوب الجنود بما يقوله الصغار المتعَبين المحاصَرين، والمأساة مستمرة في كابوس طويل لا يصدّق ولم يكن يُتخيَّل، لا من القاتل ولا من القتيل، فكبرت المجزرة وعظمت المذبحة على أيدي المتخاذلين المتواطئين أكثر مما كان يريد حملة السلاح أنفسهم من العصابات الإسرائيلية، فقُتلت غزّة بأيدي إخوتها لا الذئب وحده، في زمن الانحطاط العربي!