عهدة مالية

حسب ما خبرت في عملي فإن العهدة هي مبلغ مالي يقدم لموظف حكومي لغرض الصرف منه ويوقع من الرئيس المباشر ثم الأعلى ثم يعتمد من المدير المالي، وفي بعض الحالات المقيدة يكون لا بد من اعتماد رئيس الجهة الأعلى بغرض التضييق. ثم تتم تسوية هذه العهدة لاحقاً، حسب نوعها وطريقة صرفها. وهناك عهد مالية يتوجب على الموظف الذي يحوزها تقديم ضمان مالي على هيئة وصل أمانة.

كل السلف والتسويات التي تجرى للموظفين تدخل في باب العهد وتقيد مالياً وفق القيود الملائمة. وطبيعة عملي الذي تطلب مرات كثيرة السفر والتنقل اضطرتني لأحد أمرين، إما أن نأخذ عهدة مؤقتة وتسمى أيضاً شخصية نقوم بتسويتها لاحقا أو نحمل النفقات على نموذج مهمة العمل. لم تتجاوز العهد عشر عهد طيلة عمل بشركة لسبعة عشر عاما وقيمة كل منها تقع بين مائة وخمسين إلى ثلاثمائة إن كان هناك رفاق معي في السفر، أقوم بتسويتها، حسب ما تم صرفه وهو جزء يسير منها، في نموذج معتمد يسمى، أمر تسوية، من الرئيس المباشر والأعلى والإدارة المالية، ويتم تقييمها وفقاً لإجراءت القيود المالية كدائن ومدين، ويجب أن ترفق فواتير تغطي المصروفات.

هناك عهد مستديمة تمنح لموظفين مختصين في تسريع أعمال الشركة مثل بعض موظفي المشتريات وما شابه. هذه العهدة مبلغ محدد من المال، كلما تم الصرف منه وأوشك على الانتهاء، يقوم الموظف المسؤول بالتسوية، مرفقة بطلب استعاضة، وهو استكمال المبلغ الذي تم صرفه من العهدة. بصفة عامة يجب على الموظف المختص إجراء التسوية أولا بأول بغض النظر عما تم صرفه من العهدة من أجل صيانة والمحافظة على مبلغ العهدة كاملا في كل الأوقات.

هناك عهد سنوية تتم تسويتها قبيل الجرد السنوي في نهاية العام. وبند العهد لا يمكن التلاعب فيه عادة لدرجة الهدر.

أنا مواطن لا أفهم إلا لماما في المالية وكيفية إدارتها ولم تنطل علي هذه الحيلة، فما بالك بالمختصين وما أكثرهم على جميع الأصعدة في الدوائر المالية؟

المسميات والتصنيفات للعهد تختلف من بلد لآخر ومن نظام لغيره، لكن هذه أهم أنواع العهد التي عرفتها خبرة، ومن خلال دراسة نظم الميكنة للإدارة المالية التي كانت تحظى بالاهتمام الكبير من قسم الحاسوب لأتمتة معظم إن لم يك كل نظمها. حين كنت أخصائيا وهي درجة قبل الخبير، كانت تناط إلي أعمال كثيرة منها مراجعة دراسة ميكنة نظم جديدة، ومرت علي دراسة مقدمة من زميلة لتنفيذ نظام خاص بمراقبة العهد ليضاف إلى أحد النظم المالية. هناك أيضا النثريات وقد يخلط البعض بينها وبين العهد ورغم التشابه أحياناً في أوجه الصرف إلا أنها مختلفة تماما.

ما دعاني للحديث عن هذا الموضوع، وأنا غير المختص بعوالم وخبايا المالية، هو محاولة السيد رئيس الحكومة المؤقتة، في ليبيا الجريحة المهدورة، تغطية عين شمس الحقيقة بغربال العهد، حين طلب من رئيس صندوق التضامن الاجتماعي الحديث عن 400 ألف دينار ذهبت في شكل عهد حسب تقرير ديوان المحاسبة، وهو رقم أساس لا يذكر، صرف أكثر منه على ثلاثة أعمال هابطة لا تمت للفن بصلة ولم تحظ بمشاهدة أحد، ومهما بلغ الهدر في العهد لن يتجاوز 10% وهي لعبة كما أراها لحجب ما ذكره ديوان المحاسبة الذي هو أحد أضلع مثمنات أو مربعات الفساد، وهو جهة غير محايدة وغير أمينة.

برغم من هذه المحاولة الركيكة، التي لا تحتاج أي تحليل قيود وأوجه إنفاقها إلا أنه حتى فيها فشل فشلا ذريعا في تحويل القطار عن سكته، فلم ينجح رئيس صندوق التضامن في تبيين أوجه صرف هذه العهد "الخيرة" والتي تم انتقاؤها لأنها تمس شريحة مظلومة دخلها أحد من محدود، باعتبارها تمثل قيمة عاطفية للناس كون أنها جاءت من صندوق يصرف على أناس أقرب للعوز. كان عليه أن يقول إن هذه العهد ذهبت لمساعدات إنسانية يذكرها، فربما هي عهد صرفت على موظفي الصندوق أنفسهم، ولم تصرف للمساعدات العاجلة.

أعرف أن بند العهد فقط من غير النثريات في مجلس النواب والدولة تجاوز رقم عهد حكومة الدبيبة في صندوق التضامن، بعشرات المرات وتم نهبها من قبل سليلي النهب وأرباب الغنيمة واستباحة المال العام، بل إن وزارات أخرى صغيرة أو هيئات لا شك أن حجم العهد بها أضعاف مضاعفة لما تم تخيره وانتقاؤه بعناية حتى يلامس الشعور الشعبي، إن وجد أساسا.

أنا مواطن لا أفهم إلا لماماً في المالية وكيفية إدارتها ولم تنطل علي هذه الحيلة، فما بالك بالمختصين وما أكثرهم على جميع الأصعدة في الدوائر المالية؟ كفاكم كذبا وعبثا وتبريرا لا يصدقه جاهل وأوقفوا نزيف المال العام لمصلحة التماسيح، فلو ذهب مباشرة إلى جيوب الفقراء، ما همنا إن كان عهدا أم نثريات؟