عن قرارات الحكومة الراحلة
في خطوةٍ مُثيرة للجدل والسخط الشعبي، ومن خلال أمرٍ دُبّر بليل، أعلنتْ الحكومة الأردنيّة المُنتهية ولايتها الأسبوع الماضي، وقبل يومين فقط من استقالتها، عن رفع كبير في الضريبة على السيارات الكهربائيّة. ولتقريب الصورة، ارتفعتْ أسعار السيّارات الكهربائية التي يتراوح سعرها بين 10,000 و25,000 دينار بمعدل 7,000 دينار (تقريبا 10,000 دولار أميركي). ويثير هذا القرار، الذي اتُخذ في اللحظاتِ الأخيرة من ولاية الحكومة، تساؤلات جوهريّة حول شرعيّة وأخلاقيّة وطبيعة السلطة الديمقراطية للحكومة خلال أيّامها الأخيرة. ومثل هذه القرارات، التي تتخذها إدارة مدركة تمامًا لرحيلها الوشيك، لا تتحدّى مبدأ المساءلة الديمقراطية والحكم الرشيد فحسب، بل لها أيضًا آثار أوسع وارتدادات أخطر على الثقة العامة في مؤسّسات الدولة.
بغضِّ النظر عن الأسباب الفعليّة وراء القرار، هل هي فعلًا حاجة اقتصاديّة مُلحة لزيادة الجباية تتحمّل الحكومة الراحلة كلفتها الشعبيّة وتُريح الحكومة القادمة من تحمّل ثمنها السياسي والشعبي، أو حركة استعراضيّة تعطي "كرتًا" للحكومة الجديدة ومجلس النواب الجديد ليتصارعوا قليلًا أمام الناس قبل التراجع، ولو جزئيًا، عن القرار في محاولةٍ لإضفاء مزيدٍ من الشرعيّة والثقة في كليهما. أيضًا، وبغضّ النظر عن الدافع السياسي، يكمن جوهر الجدل في توقيت القرار. فالحكومة التي تُوشك على تسليم السلطة لإدارةٍ جديدة تعمل في فضاءٍ سياسي فريد من نوعه. وفي حين قد تظلّ محتفظة بالسلطة القانونيّة لسنِّ السياسات، يبرز السؤال: هل ينبغي لها أن تفعل ذلك؟
وبالعودةِ قليلًا للوراء، كان وزير ماليّة الحكومة الراحلة قد تعهد في وقتٍ سابق بعدم رفع الضرائب مرّة أخرى في العام الحالي، وهذا التراجع المُفاجئ خلقَ شعورًا بالخيانة لدى الكثير من الناس، وخاصة عندما يُنظر إليه على خلفيّة التزام الحكومة العلني بالتحوّل الأخضر، والحدِّ من الانبعاثات الكربونيّة، وتحسين حياة المواطنين كما ورد في أدبيّات رؤية التحديث الاقتصادي وأدبيّات مبادرات الإصلاح بشكلٍ عام التي صيغت ثلاثيتها (سياسي، اثقتصادي، وإصلاح قطاع عام) في عهد الحكومة الراحلة. ممّا قد يدفع الكثيرين إلى التساؤل: هل كانت هذه التعهدات مجرّد شعارات بلاغيّة رنانة، أم "سوالف حصيدة" مُخصّصة للاستهلاك الشعبي، وليس أهدافًا سياسيّة واقتصاديّة واجتماعية ملموسة.
الأطر القانونيّة غالباً ما تكون غير كاملة، ممّا يسمح باستغلال المناطق الرمادية، والتي قد تستخدمها الحكومات لتبرير الإجراءات التي تتجاوز المساءلة
من منظورٍ قانوني، قد يجد قرار الحكومة المُنتهية ولايتها مبرّرًا في إطار القانون، مستغلًا مرونته أو الثغرات المُحتملة فيه، ففي العديد من الأنظمة السياسية، تحتفظ الحكومات المؤقتة بالقدرة على اتخاذِ قراراتٍ معيّنة حتى يتم تنصيب حكومة جديدة. ومع ذلك، حتى لو كان مسموحًا به قانونًا، فإنّ أخلاقيّة مثل هذه الخطوة موضعَ شكٍّ عميق. هل يمكن لحكومة أشرفت للتو على الانتخاباتِ البرلمانية، وهي على وشك تسليم السلطة، أن تتخذَ بشكلٍ شرعي قرارات لها عواقب طويلة الأجل على غالبيّة السكان دون أيّ مشاركة ذات مغزى مع القطاع الخاص أو المجتمع المدني؟
إنّ هذه الجدليّة تُسلّط الضوء على التنافر المزعج بين الشرعيّة والأخلاق في الحكم. ومن الأهميّة بمكان، أن ندرك أنّ مجرّد كون القرار قانونيًا لا يعني أنّه أخلاقي أو عادل. فالأطر القانونية غالبًا ما تكون غير كاملة، ممّا يسمح باستغلال المناطق الرماديّة، والتي قد تستخدمها الحكومات لتبرير الإجراءات التي تتجاوز المُساءلة. إنّ مبدأ الحكم الديمقراطي لا يتعلّق فقط بالالتزام بحرفيّة نصِّ القانون؛ بل يتعلّق أيضًا بتكريم روح الديمقراطية، والتي تشمل الحوكمة والشفافية والمُساءلة والمشاركة الهادفة من جميع قطاعات المجتمع.
في هذه الحالة، يؤدّي الافتقار إلى الرقابة من قبل مجلس النواب المُنتخب حديثًا وعدم التشاور معه إلى تفاقم المخاوف وإضعاف الثقة في المؤسّسات. من خلال اتخاذ مثل هذه القرارات المُهمّة والمصيريّة لقطاعاتٍ كاملة دون إتاحة الفرصة للهيئة التشريعية الرقابية أو المجتمع المدني والجمهور للتدخل، ومن خلال هذا السيناريو وبعض القرارات الحاسمة الأخرى طويلة المدى التي اتخذتها الحكومة المنتهية ولايتها في أيّامها الأخيرة تكون قد ساهمت بتقويض العمليّات الديمقراطيّة، من خلال فرض السياساتِ واتخاذ القرارات في غياب التدقيق المناسب أو المدخلات من الأشخاص الذين ستؤثّر عليهم هذه السياسات أكثر من غيرهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أكد رئيس غرفتي تجارة الأردن وعمّان في حديثة لقناة "المملكة" الأردنية، أنّ قرار رفع الضريبة تصاعديَّا على الشَّرائح الأعلى سعراً من المركبات الكهربائيَّة لم يتم التشاور به مع الغرفة.
إنّ مبدأ الحكم الديمقراطي لا يتعلّق فقط بالالتزام بحرفيّة نصِّ القانون؛ بل يتعلّق أيضًا بتكريم روح الديمقراطية
وعلاوة على ذلك، يتناقضُ قرار زيادة الضرائب على السيارات الكهربائيّة بشكلٍ مباشر مع الأهداف البيئيّة المُعلنة للحكومة. في حين التزم الأردن، مثل العديد من البلدان الأخرى، علناً بخفض الانبعاثاتِ الكربونيّة وتعزيز حلول الطاقة الخضراء، يبدو أنّ هذه الزيادة الضريبيّة تتعارض مع مثل هذه الالتزامات. يُعترف على نطاقٍ واسع بالمركبات الكهربائيّة كمكوّنٍ رئيسي في الحدِّ من البصمات الكربونيّة وتعزيز النقل المستدام. إنّ زيادة الضرائب على هذه المركبات لا تثبط تبنيها فحسب، بل إنّها ترسل أيضًا إشارات متضاربة حول أولويّات الحكومة. فكيف يمكن للحكومة أن تدّعي إعطاء الأولويّة للتحوّل البيئي بينما تفرض أعباء ماليّة على الأدوات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف؟
مرّة أخرى، على الرغم من أنّ قرار الحكومة الأردنيّة المُنتهية ولايتها برفع الضريبة الخاصة على السيّارات الكهربائيّة، ربّما كان جائزًا من الناحية القانونية، فإنّ أخلاقيته محلّ شكٍ كبير. ذلك أنّ الحكومة التي تقف على أعتاب مرحلةٍ انتقاليّة لديها واجب أخلاقي بالامتناع عن اتخاذِ قراراتٍ بعيدة المدى دون الإشراف المناسب ومشاركة الشعب الذي تخدمه. وإذا كانت الحكومات الديمقراطيّة راغبة في الحفاظ على مصداقيتها، فيتعيّن عليها أن تضمن أنّ أفعالها تتوافق مع كلّ من الأطر القانونية والمبادئ الأخلاقيّة للحكم الرشيد، وعلى الأقل مع أدبيّاته والتزاماته المعلنة. وأيّ شيءٍ أقلّ من ذلك يهدّد بتقويض ثقة الناس، وتآكل نظم حوكمة صنع السياسات واتخاذ القرار، وأسس الديمقراطيّة ذاتها.