عن ضرورةِ إعادة تأسيس العلاقة مع الغرب
عزيز أشيبان
تتميّز علاقة الدول العربيّة مع الغرب بعدم التكافؤ والتحيّز وعدم الاحترام والصفاقة وميل وجهة الاستفادة إلى كفّةٍ واحدةٍ، إذ تأسّست منظومة العلاقة على رواسب الاستعمار أو الحماية، وظلّت امتدادًا منطقيًا لهما. وحتمًا، ما زالتْ هذه العلاقة من جهةٍ، تنهشُ في مناعةِ الدول العربية وتعوق تجاربها التنموية وتنال من سيادتها، وخيراتها، وكرامتها، وتأتي على طموحاتِ شعوبها، ومن جهةٍ أخرى تخدم مصالح الغرب الذي يطمح إلى تثبيتِ الوضعِ القائم واستدامته، وذلك حسب تغيّر مصالحه ورؤاه المستقبلية إلى درجة التدخّل في تفاصيل دول المنطقة العربيّة وتحديد بناء تصوّرات مستقبلها. وفي خضمِّ هذا الوضع القاتم والمُعقّد، تسعى الشعوب العربية إلى التحرّر وإطاحة المعادلة القائمة واسترجاع الاحترام والكرامة، فهل من سبيل إلى ذلك؟
بادئ ذي بدء، نظنّ أنّه من الضروري الوقوف على الغاية المفصليّة من تصحيح العلاقة مع الغرب والممكن توزيعها على عدّة محاور، نذكر منها: إقامة علاقة مبنية على الاحترام وكرامة سكان المنطقة العربيّة التي تئن تحت لهيب بنياتٍ نفسيّةٍ مضطربة، تسكنها عقد النقص والمظلوميّة والافتقاد للشعور الصادق بالانتماء للإنسانية، التأسيس لعلاقة أكثر عدلًا وتحترمُ الذات وتُقيم لها الوقار والاحترام، الخوض في علاقةٍ تضمن المصالح للطرفين وليست امتدادًا لفترة الاستعمار، الوعي والاستثمار العقلاني للقوى الحقيقية للعرب وتوظيفها بفعاليّةٍ ونجاعة، إنهاء التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لدول المنطقة العربية، تقوية اللحمة العربيّة ووقف نزيف البلقنة والتفتيت وتشريد الشعوب.
لا مناص من إجراء مقارنةٍ عابرة لكيفيّة بناء العلاقات الخارجيّة عند الغرب وعند دول المنطقة العربية. فبالنسبة للدول الغربيّة، تستأثرُ العلاقات مع الخارج بدورٍ محوري، حيث تستقر في قلب منظومة الأمن القومي التي تُحدّد طبيعة العلاقات وأهدافها وكيفيّة تفعيلها، إذ هناك اختلاف جوهري في المفهوم والممارسة بين الحليف والصديق والشريك وتبعات كلّ اتفاق. تقومُ العلاقات الخارجيّة على نسقٍ متحرّكٍ ومتجدّدٍ بخصوص نوعيّة العلاقات، إذ ليس هناك أصدقاء دائمين أو حلفاء وفق منظومةٍ أخلاقيّة أو اعتباراتٍ معنويّةٍ، بل المصلحة هي من تحّدد الحليف والصديق، وبكلِّ عقلانية. نعي جيّدًا أنّ اعتبارات المصلحة المشتركة والرؤية المستقبلية هي من أملت ضرورة التحالف والتعاون وعبّدت الطريق لمعاهداتٍ واتفاقيّاتٍ بين دولٍ شهدت حروبًا ونزاعاتٍ لمدّة طويلة، كما هو الحال بالنسبة لفرنسا وألمانيا، مثلًا لا حصرًا.
الغرب لا يحلّ مشاكل الآخرين بل يمسك بخيوط اللعبة ويسخرها لقضاء مآربه وتكريس سطوته
فضلًا عن ذلك، تُبنى القرارات بتريّث ووفق مقاربةٍ مؤسّساتيّةٍ تشاركيّةٍ بمعيّة الجهات الرسمية المعنية والمعاهد الاستراتيجية للدراسات التي تضمن استدامة المتابعة والتدقيق وتوفير المعلومات ولا يُترك المجال الفسيح للقرارات الفردية أو الآنية أو المزاجية.
في المنطقة العربية، تفتقد صناعةُ القرار العربي للعقلانية والاستقلالية والنضج والانسجام وفق نسقٍ معيّن وعدم تبصّر المستقبل، وتقومُ أساسًا على ردودِ الفعل والعواطف، لذلك فتصوّرات إقامة العلاقات الخارجية لا تستقلُ من قيودِ هذا الوضع العليل. للأسف، لا يتوافق سلّم الأولويات مع طموحات الشعوب، ويبقى مطوّقًا في وجود اعتباراتٍ واختلالاتٍ بنيويّة معقّدةٍ للغاية. كما أنّنا لا نجيدُ قراءة الواقع في ظلِّ الاستفراد بالقرار وتغييب الانتلجنسيا وتهميش الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية، واحتكار عمليات الدراسة والمتابعة والاستطلاع من قبل لجان ضيّقة.
غني عن البيان أيضًا، القول إنّ عملية التأسيس للعلاقات الخارجية تُوظّف عناصر القوّة المُتاحة لكلِّ بلدٍ وتستثمر بعقلانيّةٍ في المفاوضات المؤسّسة للاتفاقيات. في هذا السياق، تزخر دول المنطقة العربية بحضارةٍ غنيّةٍ وريادةٍ سابقةٍ قابلة للعودة، رأسمال رمزي قوي، موقع جغرافي استراتيجي، مصدر إمداد الطاقة، وسوق مهمّة للاستهلاك. كلُّ هذه الذخائر تتحوّل إلى نقمةٍ والشريك يغدو مفترسًا في حضور علاقاتٍ مجحفةٍ ومؤسّسةٍ على حسابات ضيّقةٍ.
نحتاج إذن إلى الخوض في تجربة التغيير من الداخل والاعتراف بالفشل والمصالحة مع الذات ومراجعة التصوّرات التي أنتجت الإخفاقات والانتكاسات وكرّست للهيمنة الغربية. كما يجب البدء بحلِّ المشاكل البينية مع الجيران ودول المنطقة العربية، والانكفاء على الذات، وعدم دعوة الغرب إلى التدخّل، فالغرب لا يحلّ مشاكل الآخرين بل يُمسك بخيوط اللعبة ويسخرها لقضاء مآربه وتكريس سطوته. وبالقدر نفسه، نحتاج إلى العقلانية أكثر والنفعية في التعامل مع العالم الغربي الذي لا يؤمن إلا بمنطق رابح رابح، ولا يُبدي استعدادًا لتغيير نظرته إلينا كمستهلكين، تابعين، عاجزين عن تدبير شؤونهم والانخراط في تقديم القيمة المضافة للعالم والانصهار في حركة التاريخ.