عن سهولة وسلاسة الاختراق الخارجي للمنطقة العربية
عزيز أشيبان
تظلّ المنطقة العربية مستهدفةً باعتبار ما تزخر به من موارد طبيعية وموقع استراتيجي واعتبارات تاريخية، ترتبط أساسًا بحضارة تركت أثرها في تاريخ البشرية، وأسهمت في تراكم الرأسمال المعرفي. ومما لا شك فيه، أنّ العامل الخارجي يستأثر بنصيبٍ وازن مما يقع داخل المنطقة من أزماتٍ وفشل، وما تتعرّض له من بلقنة وشقاق وفوضى وتراجع، غير أنّ الاختراق الخارجي لم يكن ليحقّق مسعاه دون وجود جيوب توّغل، تستقر في النسيج الداخلي، مكنته من التوّغل والتأثير.
يضم النسيج الداخلي في المنطقة العربية مجموعة من المحفّزات التي تُسيّل لعاب التدخل الخارجي وتعبّد له الطريق نحو التمكين والاشتغال بفعالية. لا نميل قطعا إلى الاختزال أو التعميم بإلغاء الخصوصية الثقافية لكلّ بلد على حدة، بقدر ما نركز على القواسم المشتركة والانتماء الجغرافي إلى نفس المنطقة.
بادئ ذي بدء، نركز على حقيقة عدم تحقق الاستقلال الفعلي واستمرار الاستعمار في الوجود والاشتغال بطريقة غير مباشرة، وبفعالية أقوى وأنجع، بمعية النخبة التي تركها في التدبير نيابةً عنه، فكانت أكثر ولاءً له من ولائها للبلد الذي تنتسب إليه بيولوجيًا، وليس وجدانيًا. نتحدث عن جنود التدخل الخارجي أصحاب الريع والتناوب على المناصب والغنائم والمبشرين بتجربة المستعمر الحداثية قولًا، والمعارضين لقيامها في بلدهم الأصلي فعلًا. لذلك، فالقطيعة مع الوصاية الخارجية لم تتحقّق واستقرت، فقط، في المخيال الجماعي كطموحٍ طاولته الإخفاقات، فيما جعلها الحاكم في مجال اللامفكّر فيه ما دامت لا تخدم مآربه الشخصية.
الاختراق الخارجي لم يكن ليحقّق مسعاه دون وجود جيوب توّغل، تستقر في النسيج الداخلي، مكنته من التوّغل والتأثير
ثانيا، تفنّن التدبير القائم في هندسة الخيبات ومراكمة الإخفاقات، ما أنهك المناعة الداخلية وأسكنها الهشاشة والوهن بفعل الاضطرابات التي تطاول البنيات الذهنية والنفسية وتفشي السخط والتذمر واليأس والشك بين السواد الأعظم من الناس. تظل بذلك المناعة الداخلية، سواء الشعبية أو الرسمية، كليلةً وهشةً لا يمكنها الصمود أمام الضغوطات والمؤامرات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء.
ثالثا، بما أنّ الهوية الثقافية تستقر في قلبِ منظومة المناعة الداخلية كنواتها الصلبة، فلا غرابة إذاً أن تكون هدف التقويض والإجهاز من خلال احتقار وتهميش الرأسمال الثقافي المحلي واختلاق فوضى لغوية للقضاء على رمزية اللغة العربية وتفكيك الهوية وتوظيف لغة المستعمر لتكريس الاستلاب الثقافي والتبعية والسطو على الإدراك.
رابعا، وفي نفسِ منحى الانحدار والتراجع، انفصلت شرعية الحاكم عن ماهيتها في الاستجابة لمصالح الناس، وانصرف كلّ همه وتركيزه إلى إشباع مصالحه الشخصية ومآرب حاشيته التي تعبث بالعباد والبلاد تحت اسمه وإمرته، واسترسلت في إساغة ما لا يُساغ. في وضعٍ كهذا، تُستجدى الشرعية من الخارج وتنفصل عن مأتاها الطبيعي، وينحصر هم الحاكم في الحفاظ على كرسيه المقدّس بكل ما أوتي من قوة لعلمه اليقين بأنّه منبوذ من شعبه، فينخرط، والحال هذا، في الإجهاز على المعارضة ومؤسسات الوساطة، والنيل من الإدراك الجماعي من خلال الإجهاز على نظام التعليم وأدوات التثقيف العام وخلق الفوضى في التصوّرات والمفاهيم وتغييب الصفاء الفكري والذهني، ويتفانى في صناعة شعب مسحوق، همّه الوحيد إشباع حاجاته الفيزيولوجية.
من الطبيعي إذاً أن يرى المواطن نفسه قِنًّا في نظام فيودالي لا يكترث لوجوده، أو كرامته، أو مستقبله، ما دام الوطن في خدمة أشخاص لم يقدّموا له شيئًا سوى السرقة والنهب وبالقانون، فيما السواد الأعظم يعيش من دخلٍ هزيل يقيم الأود، ولا يكاد، وبعد جهد جهيد ومشقة يتوارثها الآباء والأبناء والأجيال المتعاقبة.
لم تعد الشعوب تشعر بوجود من يدافع عن مصالحها ويستشعر أوجاعها وهمومها ويتحدث بلسان واقعها
خامسا، لم تعد الشعوب تشعر بوجود من يدافع عن مصالحها ويستشعر أوجاعها وهمومها ويتحدث بلسان واقعها، إذ أُجهز على الصحافة الفعلية، حيث النقد والمساءلة والمتابعة، وعُوّضت بطوابير الاطراء والتهليل والتبجيل والتملّق، ما سرع وتيرة نفور المواطن ووقوعه في براثن استمالة بعض المنابر الإعلامية الخارجية، حيث أجندات الاستلاب والتضليل وقلب الحقائق وتصريف الأوهام.
سادسا، تخلخلت نقاط الارتكاز وتناسلت الكبوات والإخفاقات وتسيّد اليأس والتذمر والسلبية والأوهام والتيهان، فصارت قراءة الواقع بعقلانية وتقبّل من باب المستحيل. كيف للأمل أن يُختلق في ظلّ حكامةٍ تقود ثورة ضده وتئده في المهد؟ يبدو أنّ الأمر ليس بالمستحيل لكنه صعب للغاية.
في انتظار أن تعود روح الوطن إلى كنه الانبساط والفخر والكرامة، وتتخلّص من التبعية والتخلف لتتسيّد المشهد قيم المواطنة الفعلية والعدالة وتكافؤ الفرص والمساءلة، بما يؤّسس لنظامِ مناعةٍ أمام كلّ محاولات الاختراق الخارجي، فيغدو المواطن أوّل مدافع عن وطنه بدل الضحية المستهدف من كلّ جانب. حينئذ يمكننا الخوض في الحديث عن السيادة والشرعية والحكامة.