عن حرب غزّة ورموزها... الصحافة نموذجًا
(1)
على امتدادِ التاريخ، كان كلُّ حدثٍ كبير يصنعُ رموزَه وأيقوناته التي تبقى وتتحوّل مع الزمن إلى عناوين له وشواهد عليه بشكلٍ أو بآخر، ولهذه الأيقونات دور مهم في حاضرِ الحدث، وأيضًا في بقاءِ الحدث في التاريخِ، ووصول سرديته إلى أكثر ما يمكن من الناس. فمثلًا، عندما نتذكر حرب البوسنة، نتذكر معها مذبحة سربرنيتسا وعلي عزت بيغوفيتش، وربّما رموزاً أخرى كانت شاهدةً على حربِ إبادةٍ عرقيةٍ، انتهكتْ كلَّ القيم الإنسانية.
والحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة اليوم، لا تخرج عن هذا المبدأ، وإذا أردنا البحث فيها عن هذه الأيقونات التي نشأتْ، وما زالت تنمو، وجدنا أسماءً وأحداثًا كثيرةً وقطاعاتٍ متعدّدة، لعبتْ دورًا بارزًا، وبعضها ما زال خافيًا، وسيظهر لاحقًا، حين تنتهي هذه الحرب.
(2)
للصحافةِ والصحافيين موقعٌ مهمٌ في قائمةِ أيقونات الحرب ضد قطاع غزّة، فلولاهم لما كان لنا أن نكون على هذا القدر من الاطلاع والمواكبة لِما يحدث على الأرض، ولَما عرفنا السردية الفلسطينية للأحداث في عالمٍ يسيطر عليه الإعلام واللوبيات الموالية لإسرائيل. ومن أبرز الصحافيين الذين عرفناهم، صحافي قناة الجزيرة، وائل الدحدوح، الذي تابعه كلّ المشاهدين من خلال حضوره مراسلًا للقناة في غزّة، وشاهدًا على أحداثٍ كثيرةٍ في هذه الحرب، وأيضًا لِما تعرّض له من استهدافٍ، هو وعائلته، أكثر من مرّة، حيث فقدَ الكثير من أفرادِ عائلته، ما جلب له تعاطفًا كبيرًا من كلّ أنحاء العالم. لكنّ وائل الدحدوح لم يكن وحيدًا بين مراسلي الجزيرة، بل نجده مُحاطًا بأجيالٍ جديدة من الصحافيين الشباب الذين أخذوا عنه المشعل بعد خروجه من غزّة، وكلّهم عزمَ على البقاءِ وتنويرِ العالم بكلِّ ما يحدث في غزّة من جرائم الاحتلال ومعاناة الناس. وهم بذلك يقومون بحركةٍ نضاليةٍ كبيرةٍ من أجلِ الوطن، ويساهمون بفعاليةٍ في إيصالِ قضيّة فلسطين إلى العالم، وخاصة في ظلِّ حربِ إبادةٍ تريد أن تجعل من غزّة مكانًا غير صالحٍ للحياة.
(3)
لا تمييز لدينا بين أفرادِ الجيل الجديد من الصحافيين، وخاصة الذين تابعناهم على قناة الجزيرة والذين يؤدّون دورهم على الوجه الأكمل، ولكنّني أعتقد أنّ الصحافي، أنس الشريف، يستحقُّ تحيةً أكثر من خاصة، فهو تقريبًا الصحافي الوحيد في شمال غزّة الذي بقي هناك في مكانٍ لم يعرف الهدوء لحظةً واحدة، وهو المكان الذي بدأت به آلةُ الحرب الإسرائيلية، قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا، والتي هاجر منها من هاجر إلى الجنوب، وبقي فيها آخرون، تأكيدًا لتمسّكهم بأرضهم، ومعهم أنس الشريف، صحافيًا وراويًا، للكثيرِ من تفاصيلِ الحياة هناك، ليكون تقريبًا الصوت الصحافي الوحيد الذي يرسل التقارير من هناك. بقي أنس مع عائلته، في مكانٍ لم تكفِ مُعاقبته بالتدميرِ والقتل، بل أيضًا بنشرِ الجوع ونقص المواد الغذائية... تخيّل نفسك هناك، تحت وقعِ القصف والتهديدِ بالموت في أيّة لحظةٍ، وأنت مطالبٌ بتوفيرِ المكان الآمن، والغذاء والماء والدواء، لك ولزوجتك وأطفالك وعائلتك.. وفوق هذا أنت مطالبٌ بالخروجِ للتصويرِ ومتابعة الأحداث وإعداد التقارير والتواصل مع الناس وغيرها من الأعمال.
كلُّ قطاعٍ له دوره في نحتِ السردية الفلسطينية حول الأحداث، لذلك من المهم الوعي بذلك واستثمار التجربة الجماعية والفرديّة لكلّ قطاعٍ
لا شك أنّ التصرّف وأنت تُواجه كلّ أنواعِ التهديدات يتجاوز قدراتك، وهو أمرٌ صعب التخيّل أساسًا. وكما قال الروائي عاطف أبو سيف في يوميّاته: "يجب أن تكون هناك لتعرف الحقيقية"، وكلّ رياضات الذهن غير قادرة على استعادةٍ أمينةٍ للحقيقة.
(4)
أحيانًا، عندما أتساءل: ماذا لو لم تكن الصحافة، وقناة الجزيرة خصوصًا؟
يصعبُ تخيّل الجواب وتداعيات ذلك. نقول هذا عن الصحافة، ربّما لأنّها المرآة العاكسة لما يحدث، ولكنه ينطبق أيضًا على غيرها من المجالاتِ الحيوية كقطاعاتِ الصحةِ والدفاعِ المدني ومؤسّسات المياه والكهرباء... وغيرها من مؤسّساتٍ لعبت دورًا بارزًا في الصمود والمقاومة، سيُكْتَشف لاحقًا. كلُّ قطاعٍ له دوره في نحتِ السردية الفلسطينية حول الأحداث، لذلك من المهم الوعي بذلك واستثمار التجربة الجماعية والفردية لكلّ قطاعٍ، ليكون هناك أكثر من صوتٍ يروي الحكاية/ الملحمة، وهو ما يسهِّل تجاوز كلّ محاولاتِ إسكات ومحاصرةِ هذه الأصوات التي لن تنتهي في عالمِ الغاب الذي نعيش، آخرها ما وقع في الفترةِ الأخيرة مع الطبيب الفلسطيني، غسان أبو ستة، الذي منعته الكثير من الدول الأوروبية من دخولها، بدءًا من ألمانيا عندما منعته من المشاركة في مؤتمرٍ داعمٍ للقضيّة الفلسطينية، ولاحقًا بإصدارِ قرارٍ يمنعه من زيارةِ بلدان "شنغن"، وهو ما طبقته فرنسا وهولندا حتى الآن، رغم أنّه كان في ضيافةِ برلمانيين للحديث عما عاينه في حرب غزّة، بوصفه طبيبًا في مستشفياتها.