عماد في جبهات القتال!

28 فبراير 2021
+ الخط -

"قتلوا منا.. وقتلنا منهم"، كم يؤسفني حق الأسف أن أجد هذه العبارة المشؤومة متداولة على مواقع التواصل بيننا نحن اليمنيين، أو أن أسمعها سماعًا مباشرًا -لا سيما- في الآونة الأخيرة التي حصل فيها ما حصل من الحروب والاقتتال بين الأطراف المتصارعة.

فبتُ أتساءل في نفسي كيمنيٍّ -خارج وطنه- يتألم جراء  ما يرى ويسمع عن حال بلده في هذا الظرف العصيب؛ نتيجة الحرب اللعينة، التي مزقت كياننا، وفرقت قبيلتنا، وعادت أحزابنا، وتخلت عن مبادئ جمهوريتنا، ونزعت الوازع الديني من قلوبنا.

كل هذا من أجل أطماع سياسية يدعي رجالاتها -من أحزاب وجماعات- بالوطنية وحب الوطن، وهم ينظرون للمجاعة التي حلت بشعبنا، وارتفاع الأسعار التي كسرت ظهورنا، وكأنهم يشاهدون فيلمًا من عالم الخيال.

أخي المواطن اليمني -المكلوم- سأحدثك اليوم عن حال -عماد- المواطن اليمني الذي دفع بنفسه إلى جبهات القتال من أجل البحث عن لقمة العيش لزوجته وأولاده، بعد أن التهمهم الجوع، ونكد بهم العيش..

عماد يمني ضاق به الحال من كل الاتجاهات، وتعسرت عليه السُبل، وصارت الحياة الكريمة بالنسبة له ولأفراد عائلته ضربًا من المحال، وطموحًا بعيد المنال، وصار في يومه يموت عشرات المرات ليس إلا شفقة بحال أطفاله -القًصر- الذين لا يجدون مقومات الحياة، ويفتقدون الدواء، ولا يجدون ما يسد رمقهم.

فقرر البحث عن عمل يكفيه حاجاته الضرورية، ولو بأجر يسير، ولكن لخيبة الأمل لم يتمكن من ذلك؛ لأنه لا يحمل مؤهلًا جامعيًا أو حرفة تكفل له حق العمل، فحينها فكر أن لا مصدر لرزقه ورزق عائلته غير التوجه لجبهات القتال حتى يضمن لأفراد عائلته لقمة العيش، فقرر وهو مكره الذهاب للقتال، وزوجته تلح عليه بكل إصرار أن لا يذهب خشية أن تفتقده، ويفتقد أبناءه العُمر كله.

أقولها كمواطن أكتوى بنار الحرب مثل بقية  المواطنين، وتجرع ألم وكمد الغربة.. أيها الساسة المتصارعون، ارحموا أنفسكم، وارحموا الشعب اليمني

كان يعي ويدرك أن التوجه لجبهات القتال يعني التوجه إلى مسار الموت من أجل الأطراف المتصارعة، والتي دامت أكثر من ستة أعوام حتى اليوم، وأن الطريق الذي عزم عليه طريق المجازفين أو المغامرين بحياتهم، ولكنه أبى إلا أن ينال موتة واحدة خير له من أن يموت كل يوم عشرات الموتات أمام أطفاله وزوجته؛ نتيجة ما حل بهم.

وما هي إلا بضعة أشهر، والخبر يذاع أو يتردد على القنوات الإخبارية، ومواقع التواصل بأنه قُتل مجاهدًا من أجل الكرامة والوطن حد زعم الإعلام السياسي الزائف.

آه ما أوجعها من لحظات!
أوجعونا بنبأ رحيلك يا عماد!

وعمقوا الجراح بافترائهم عليك بأنك قاتلت من أجل الوطن والكرامة، بيد أنهم كانوا يدركون أن الكرامة الحقيقية في قاموسك هي فراقك لأولادك وزوجتك من أجل العيش الكريم، والستر العفيف، وأن الوطن بالنسبة لأولادك وزوجتك هو أنت الذي تحتضنهم؛ فيشعرون بالحب والحنان والدفء والامتنان لقربهم منك ولطيبة قلبك ولطافتك، وحسن عشرتك، فلقد حُرموا من الكرامة التي هي سبيلك وسبيلهم، فكنت أنت خير وطن لهم، والآن باتوا بلا كرامة ولا وطن.

صديقي عماد، سلبك الساسة وسام الكرامة والوطن الذي يتغنون به، نتيجة تضحياتك وتضحيات كثير من الرجال من أمثالك، فما أقدس الوطن في أفواههم -لاسيما- عند المناسبات الوطنية التي  يوهمون بها  الفقراء والمتحتاجين وأتباعهم أنهم سيضحون بدمائهم وأرواحهم من أجل الوطن، ثم تجدهم يتبجحون بمنجزات الثورات فينسبون الفضل لآبائهم وأجدادهم، ويمدحون مناضليهم، أما أنت يا صديقي يا عماد، فليس لك من الوطن وخيرات الوطن غير هويتك التي تُليت على مسامعنا حين وافتك المنية.

وبما أننا قد فارقنا عماد شهيد الكرامة والوطن حد قولهم، إلا أننا ما زلنا نحمل في جعبتنا بعضًا من الأسئلة التي شغلت بالنا بحق مروجي تلك العبارة "قتلنا منهم وقتلوا منا".

قل لي بربك من القاتل ومن المقتول؟ أليسا يمنيين؟
قل لي بربك من الجارح ومن المجروح؟ أليسا يمنيين؟

وأخيرًا، قل لي بربك أيها -القاتل- التابع للساسة المتصارعين على كرسي الحكم، هل تعتقد أنك سبب في حرمان عماد من الحياة مع أولاده، وقد حرمتهم عائلهم الوحيد بعد الله، حيث كان يبحث عن لقمة العيش  كما تبحث أنت عنها، ولتدرك أنك لم تقتل نفسًا واحدة، بل قتلت عشرات الأنفس من عائلة عماد؟

نعم.. بكل تأكيد، لقد قتلت والديْ عماد بفقدانهما لفلذة كبديهما، وقتلت أم أطفال عماد حتى صارت أرملة حزينة، فلا أحد يحتويها كما يفعل عماد أبو أولادها، وقتلت مستقبل أولادها، فلقد صاروا يتسكعون في الشوارع بحثًا عن لقمة العيش التي تشبع جائعهم، وصرنا نراهم تارة بملابس بالية، وتارة بأحذية ممزقة، وتارة يبحثون عن بقايا الطعام من القمامات، وبحرمانك إياهم أباهم عماد؛ فلقد أورثتهم الصدى المحزن الذي يتردد على مسامعهم من أفواه فاعلي الخير، بقولهم: تصدقوا عليهم وأطعموهم فهم أيتام لا أب لهم!

بل وأحزنت جيران وأصدقاء عماد، إذ لطالما كان رجلا محبوبًا ويشهد له بالصلاح بين أقرانه، ولكن ظروف الحياة أجبرته على أن يكون في سطور خبر كان.

تخيل معي أيها العاقل اللبيب!

لو أن كل يمني في جبهات القتال التي خلفتها الصراعات السياسية والحزبية نظر إلى حال أخيه اليمني قبل أن يصوب البندقية إليه، وفكر بعقلانية عن السبب الذي دفع هذا المواطن المسكين إلى ساحات القتال ما كان سيدرأ  أن يقتل أخاه الآخر.. ولو علم حقيقة هذه الدنيا، لما حدث نفسه بتاتا عن مقاتلة ابن بلده من أجل الأطماع السياسية لكبار القوم..

آه آه ما أشد ألم الفراق من أجل لقمة العيش!

- كم ليال وأيام ستظل لسان والديْ عماد تلهج بالدعاء في جوف الليل لمن كان سببا في حرمانهما ابنهما.

- كم ليال وأيام سترتوي مخدة  أم أطفال عماد بدموعها البريئة شوقًا وحزنًا لشريك عمرها، وأبي أطفالها القُصر..

- كم سنوات وأشهر سيظل أولاد عماد، ينظر اليهم بعين الرحمة والشفقة، ويمسح على رؤوسهم، بعد أن كانوا عزيزين مكرمين برعاية أبيهم، لولا نار الحرب اللعينة!!

- كم وكم من الليالي والأيام ولعنة أصدقاء وأحباب عماد، ستظل تلاحقك أيها القاتل أينما وحيثما كنت..

وفي الختام، أقولها كمواطن أكتوى بنار الحرب مثل بقية  المواطنين، وتجرع ألم وكمد الغربة.. أيها الساسة المتصارعون، ارحموا أنفسكم، وارحموا الشعب اليمني الموجوع، وعوا أننا في شهر الله المحرم -رجب- فلا تظلموا فيه أنفسكم، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، وإياكم أن تملؤوا صفحات تأريخ أجيالنا القادمة بالثأر والحقد والكراهية؛ من أجل أن تنعموا بعيش كريم، ومنصب رفيع، مقابل أن يكون المواطن اليمني فقيرًا مشردًا، ودرعا بشريا في جبهات القتال من أجلكم!

*ملاحظة: عماد شخصية وهمية من مخيلة الكاتب إلا أنها تحكي عن حال العديد من المواطنين اليمنيين الذين حرموا أهاليهم نتيجة الصراع الحالي في اليمن.

دلالات