طنجة مدينة أقل من فاضلة وأكثر من غابة إسمنتية
كانت طنجة مدينة عالمية، لكنها لم تعد كذلك اليوم، لذلك فإنّ فهم تطوّر المدينة في العالم الثالث و"مآلات المدينة المتوسطية الكوسموبوليتية في الضفة الجنوبية للمتوسط، يذكرنا بذلك التطوّر الحزين والبئيس الذي عاشته مدن مثل الإسكندرية وبيروت وطنجة"، كما يذكر الكاتب رشيد بوطيب. فهل اختُزلت المدينة العالمية في مجرّد مكان سياحي مُبتذل، أو سحر "ألف ليلة وليلة" الذي يداعب خيالاً مشبعاً بالكتابات الاستعمارية عن الغرائبية عن الشرق وشمسه الملتهبة؟
بقيت المدينة محتفظة ببركة روحها الرمزية حتى الآن، بدليل استمرار نزول المريدين عبر مطارها الدولي بحثاً عن مُتخيّل المثقفين والكتّاب والشعراء، حيث كُتب الكثير عن طنجة، مما يشهد على أحقابها التاريخية المتميّزة، سواء من شهد عصرها الدولي أو زمن تحوّلاتها الكبرى مع انجراف عصر بأكمله ودخول عهد الحماية سنة 1912. يلاحظ المفكر المغربي الشهير عبد الله العروي ذلك من خلال الكتابات الاستعمارية ذات العناوين المثيرة: "المغرب الذي كان"، "غروب الإسلام"، "دولة تنهار..".
أما الأدب العالمي، فقد جعل من طنجة محط غواية الأدباء والفنانين، لذلك يصعب تجاهل الكاتب المغربي محمد شكري كلما ذكرت مدينة طنجة، كما يصعب نسج خيوط أدبه دون ذكر مريد المدينة الشهير الروائي الأميركي بول بولز. فبعد صداقة بين الرجلين (شكري وبولز) سيترجم بول بولز "الخبز الحافي" لمحمد شكري إلى الإنكليزية، الأمر الذي سيحمل الرواية إلى العالمية، لكن بعد ذلك سيطبع الجفاء علاقتهما لأسباب غير واضحة تماما. لكن، ما يهمنا هنا، أنّ محمد شكري سيرمي الأديب الأميركي الشهير، بول بولز، وأحد مواطني طنجة المتميزين، بالكتابة الكولونيالية المعادية لتحديث المغرب والنظرة الرومانسية لمظاهر التخلف والفولكلور. ذات التهمة سيوّجهها إليه اليسار الثقافي، في خضم موجة نقد الكتابات الاستعمارية، إنها تهمة الفلكلورية والسعي إلى نشر صورة "شائهة ومتخلفة" عن المغرب في الخارج، كما يذكر الكاتب إبراهيم الخطيب.
جعل الأدب العالمي من طنجة محطّ غواية الأدباء والفنانين
يقول الروائي الراحل، محمد شكري: "إنّ المغرب الذي أحبّه بول بولز، أبدا، لن يرجع، ولذلك فقد انتهى، بالنسبة إليه، مع بداية الاستقلال". كما يقدم الكاتب عبد العزيز جدير، في كتابه "الحوار الأخير"، ردّ بول بولز على هذا الكلام، بالقول "لكن، يوجد ثمّة فرق بين ترك عضو جسم (أو مؤسسة) يتطوّر بشكل طبيعي، ومحاولة إجباره على التغيير".
إنّ المثال واضح عن عمق تحولات المدينة وتناقضاتها المادية والروحية. المؤكد أنّ مدينة البوغاز ستستمر في صهر التناقضات الصارخة. وكذلك أمر الإبداع الموسيقي الذي حملته فرقة الرونيلغ ستونز، خاصة الفنان براين جونز الذي وجهته نصيحة الفنان والشاعر والكاتب بريون جيزون إلى قرية جهجوكة شمال المغرب لتسجيل الموسيقى مع فرقتها، التي تكوّنت منذ قرون بواسطة أسرة موسيقية قدّمت معزوفاتها في بلاطات السلاطين المغاربة. لقد سعى إلى البحث عن شفاء جروحه الخاصة بواسطة موسيقى الجبال المنسية وموسيقى الذوق الصوفي كما ذكر الكاتب سعيد بوكرامي.
إنّ مدينة طنجة العالمية كما يرسمها الخيال الغربي هي طنجة الكوسموبوليتية تعبّر عن صراع تاريخي بين الاحتماء بالذات والأصالة من تهديد العولمة النيوليبرالية، ثم التطلعات المستمرة لتحقيق مكان أكثر إنسانية ومدينة أقل من فاضلة، وأكثر من مجرّد غابة إسمنتية.