سمر رمضاني في إسطنبول (6)

25 ابريل 2021
+ الخط -

تابعنا- في هذه السهرة الرمضانية الإسطنبولية- حديثنا عن علاقة شهر رمضان ببرامج التسلية الإذاعية والتلفزيونية. ولا أقول المسرحية والسينمائية، لأن التسلية في الأساس منزلية، ويستحيل أن يغادر الصائمون منازلهم ليشاهدوا فيلماً سينمائياً أو عرضاً مسرحياً حتى لو كان لفيلليني أو لشكسبير..

المهم؛ في أيام ما قبل التلفزيون كان جهاز الراديو يوضع في مكان ثابت من المنزل، ويُعطى درجة صوت كافية لإسماع الحاضرين، بحسب بُعدهم عنه، وحينما اخترع الغرب الترانزيستور، واستوردناه نحن كعادتنا، أصبح نقل الراديو من مكان إلى آخر أسهل، حتى صار بالإمكان وضعه على الأذن في الفراش قبل النوم، أو الخروج به إلى الشارع.. والشخص الذي يحمل راديو ويمشي به في شوارع مدينة إدلب كان ينعت بالجنون..

قال أبو إبراهيم: نعم. نحن في إدلب إذا أجانا خبر عن زيد من الناس إنه جن، كنا نسأل اللي جايب الخبر: جنون سادة وَلَّا شايل راديو؟

قال كمال: بظن إنه التلفزيون في سورية بدي في مطلع الستينات، وضرب الراديو ضرب موجع.

كمال: على سيرة الوصلات الغنائية ورد اسم مطربة اسمها نازك.. كأن هالمطربة كانت مشهورة بهديك الأيام؟

أبو المراديس: التلفزيون السوري ظهر تحديداً يوم 23 تموز يوليه 1960، في الذكرى الثامنة لانقلاب الضباط الأحرار على العهد الملكي في مصر، وفينا نقول إنه هادا الشي مو لصالحنا نحن السوريين، يعني المفروض كان ينطلق في ذكرى خاصة فينا.. وعلى كل حال هاي ملاحظة عابرة، إذا بدنا ننساق وراها مندخل في باب السياسة، بينما نحن هلق داخلين في باب الفنون والمتع والتسالي.. وبالنسبة لملاحظة الأستاذ كمال لما قال إنه التلفزيون لما ظهر سنة 1960 وجه ضربة للإذاعة، برأيي، مو دقيقة، لأنه الأمر ما كان بهاي البساطة، والراديو بقي متسيّد الساحة مدة طويلة بعد ظهور التلفزيون، لعدة أسباب، أول شي التلفزيون تمنه كان غالي، مو متل الراديو، تاني شي اللي بيشتري تلفزيون راح يصير بيته متل المقهى، كل الأقارب والأصحاب والمعارف بدهم يجوا لعنده حتى يتفرجوا على هالأعجوبة اللي بيطالع صوت وصورة في آن واحد، وتالت شي كان في رفض من بعض القوى الاجتماعية المحافِظة لدخول التلفزيون لجوة البيوت، ويصير موجود داخل الأسرة، يعني راح يتفرجوا عليه الرجال والنسوان والأولاد، والمجتمع تبعنا متلما بتعرفوا ذكوري، وهاي القوى المحافظة نحتت اسم خاص بالتلفزيون، سمته "مفسديون"، مع أن اللي بيشوف برامج هديكه الأيام بيقول إنه التلفزيون (مِصْلِحْيُون)، لأن أول شي بيرفرف العلم السوري مع نشيد حماة الديار عليكم سلام، وبتجي بعدها تلاوة مباركة من آي الذكر الحكيم بصوت محمد صديق المنشاوي، أو مصطفى إسماعيل، أو عبد الباسط عبد الصمد، وبعدين طرائف من العالم، أو برنامج من الألف إلى الياء للمرحوم موفق الخاني، ونشرة الأخبار، وإذا خطر لهم يعملوا شوية ترفيه، بيقدموا لنا واحدة من الوصلات الغنائية التالية: صباح فخري، صباح، سميرة توفيق، نازك، فهد بلان.

حنان: واضح إنك كنت تتابع التلفزيون منيح.

أبو المراديس: في سنة 1960 كان عمري تمان سنين، وما كان في تلفزيون بكل معرتمصرين، طبعاً ما راح نجيب سيرة القرى، لأن معرتمصرين كانت فيها شركة كهربا مساهمة، بينما القرى ما أجتها الكهربا للسبعينات.. المهم أنا عم بحكي هلق عن أواسط الستينات، يعني بعد بدء الإرسال بكم سنة، بوقتها صار في معرتمصرين تلات أجهزة تلفزيون أو أربعة، منهم في بيت صديقي وزميلي في المدرسة زينو، وبتذكر إنه زينو عزمني ع التلفزيون، ولما لبيت دعوته ورحت شفت العجب، كان في أكتر من تلاتين شخص إما مدعوين، أو جايين بدون دعوة، ليتفرجوا ع التلفزيون..

ضحك أبو إبراهيم وقال: على الأغلب كانوا يتفرجوا عَ جهاز التلفزيون، مو عَ البرامج!

أبو المراديس: مع أنه أبو إبراهيم عم يمزح، لكن كلامه في المحصلة صحيح. لأن حتى يشتغل الإرسال وتطلع الصورة كان التلفزيون بده "عريظة استرحام" على حد تعبير الكاتب الرائع سعيد حورانية.. كانت الصورة تظهر، والناس يتفرجوا دقيقتين أو تلات دقايق، وتبلش الصورة تغيب، والشاشة تتحول لموجات متحركة بتشبه حب الكزبرة، مع صوت أزيز بيشبه أزيز النحل داخل الخلية، وبيركضوا الشباب، زينو وإخوته، لحتى يصلحوه، بيطلعوا تنين منهم ع السطح، وواحد بيوقف ع البلكون، واللي تحت بيصيحوا للي فوق: دَوِّرْ، كمان، كمان، كمان.. واللي فوق بيصيحوا: بَيَّن؟ بيقله لسه. دَوّر. والجماهير اللي قاعدين في الغرفة إما بيكونوا عم ياكلوا بزر، أو فاتحين أحاديث جانبية، وعيونهم متعلقة بالتغيرات اللي عم تطلع ع الشاشة المكزبرة، لحتى، أخيراً، تطلع الصورة، وبيقله: بس، عندك. ثَبّتْ. وبعدما ترجع الصورة، ويرجعوا الناس يتابعوا، فجأة بينقطع الإرسال، بس هالمرة مو من البيت، إنما من المصدر، وعوض الصورة المتحركة بيصير عندنا صورة ثابتة مع مجموعة أغاني، وبيستمر الوضع شي ساعة، وفجأة بترجع الصورة، والموجودين بيصفقوا، وبيطلع المذيع ويقول: أعزائي المشاهدين نعتذر عن هذا الخطأ الفني ونتابع إرسالنا.

أم الجود: وصحاب البيت ما بيتضايقوا من كل هالناس؟

أبو المراديس: الحقيقة هن ناس طيبين كتير ومضيافين، ومع ذلك ضاجوا من هالوضع، وشال أبو زينو التلفزيون وحطه في الصندوق الخشبي الخاص فيه، بعد شي عشرة أيام من هالعجقة اليومية اللي بتخلف وراها قشر بزر وأحيانا أعقاب سجائر.. وصاروا الناس يجوا، فيقول لهم أبناء أبو زينو، إذا زيارة عادية أهلاً وسهلاً، إذا منشان التلفزيون أبوي شاله والله، لأنه عم يلهينا عن الدراسة.

كمال: على سيرة الوصلات الغنائية ورد اسم مطربة اسمها نازك.. كأن هالمطربة كانت مشهورة بهديك الأيام؟

أبو المراديس: نعم، وصوتها حلو كتير، ومن أجمل أغانيها (كل دقة ف قلبي بتسلم عليك).. وهيي لبنانية من أصل ليبي، ومع ذلك كانت معروفة في مصر أم الدنيا، وأكيد راح تندهشوا لما تعرفوا إن أكابر الملحنين المصريين بهداكا العصر لحنوا لها، رياض السنباطي ومحمود الشريف وأحمد صدقي وفؤاد حلمي. وفي إحدى الوصلات بتطلع أم كامل (أنور البابا) ع المسرح وبتقول لنازك: الله يخلي لي ياكي يا كنتي.

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...