أبو لطفي والسيارة العالقة بالوحل
(سيرة الظرفاء 9)
في اتصاله البارحة، بدا أبو سعيد متربعاً على قمة السرور، قال لي:
- أنا متشوق جداً لمعرفة تفاصيل الرحلة التي قامت بها مجموعةُ أصدقاء "أبو لطفي السَمْبَتيك" إلى قرية الشيخ صطوف، تلبية لدعوة المختار "أبو حافظ"، ولا سيما أن أبو لطفي رافق المجموعة غصباً عنه، حتى إن أصدقاءه اضطروا للتحايل عليه، ومَثَّلوا عليه ما يشبه (المقلب)، حتى أخرجوه من داره.
- نعم سيدي. ونحن، في العرف الشعبي، عندما نصف إنساناً وقع في مقلب، ولم يعد يستطيع الهرب، نقول: صار يبربر؛ أي يتحدث باندفاع، ويسرد كلاماً متداخلاً ينم عن القهر والغُلب والغيظ. ولكنّ بربرةَ أبو لطفي تستحق أن نسجلها، فهو يتحدث، كما تعلم، بطريقة ملتبسة، أو مبطنة، ظاهرُ كلامه الجِد، وباطنُه التهكم المرير. كان يقول: البشر، يا أصدقائي، أنواع، ولا سيما من حيث رجاحة العقل، نستطيع أن نقول عن رجل ما بأنه عاقل، والثاني مجنون، والثالث مهستر، والرابع عنده خضة في عقله، والخامس خرفان.. وأما أنا، وبصراحة تامة، فلست عاقلاً، وأما الصفات الأخرى، مثل خرفان، ومهستر، ومجنون، وعقله جوزتان في خرج، فتنطبق عليّ كلها. أنتم تعرفون جاري في الدكان، أبو إسماعيل الطَشَنة، وتعرفون أنه لُقِّبَ بـ "الطشنة"، لأنه غبي جداً، ولكنه مع ذلك، وللأمانة، أذكى وأعقل مني! لماذا؟ لأنه، اليوم، مثلاً، جالس في دكانه، مثل الأوادم، يبيع ويشتري، وعندما يجوع يأكل أي شيء متوفر لديه، وإذا أراد أن يدلل نفسه، يذهب إلى القصاب، يشتري 100 غرام من اللحم الضاني، الخالي من الدهون والشحوم، ويشويها في "فرن الناعس"، ويأكل، ويعود إلى عمله بكل احترام، وأما أنا، الذي يكفيني ربع رغيف مدهون بالزيت والزعتر، أو 75 غرام من اللحم، فتراني راكباً المخاطر، والأهوال، أطوي القفار، وأقطع المسافات، لألبي دعوة رجل من أصحابي، معرفتي به سطحية، لسبب وحيد أنه ذبح خروفين، لأن ابنه، الذي لا أعرفه أصلاً، تزوج! ولكن لا، لا، إنني، الآن، ألوم نفسي من دون سبب مقنع، فالإنسان يجب أن يحب لصديقه ما يحب لنفسه، فصحيح أنني لن آكل أي نوع من الدسم في هذه السفرة الحقيرة، ولكنني سأبلغ قمة السعادة عندما أرى صديقي "أبو سليم" يفترس ضلع أحد الخروفين، ويملأ كفه بالرز والفريكة والصنوبر ويدفعها في فمه كما لو أنه يلقم جاروشة البرغل، ثم يشفط نصف كأس من العيران، ويمسح شاربيه ويهمر مثل الضبع الكاسر. ليس فقط أبو سليم، فالشباب كلهم، ما شاء الله، يأكلون بطريقة تلقيم الجاروشة.
قال أبو سعيد: تريد الصدق يا أبو مرداس؟ أبو لطفي معه حق في كل هذا. ولكن الفأس وقعت في الرأس، فما الفائدة من هذه البربرة؟
- كلامك صحيح. ولكن المهم؛ عندما وصلت السيارة التي تقل المجموعة إلى قرية البَلَّاطة، كان على السائق أبو برهو الصجّ، أن يدفع سيارته في الطريق المتعرج، الصاعد باتجاه قرية الشيخ صطوف. وكانت الأرض قد تعرضت، خلال اليومين الماضيين إلى أمطار غزيرة، فأوحلت، وعلقت بها عجلات السيارة، وصارت تدور في مكانها لا تستطيع أن تتقدم خطوة واحدة.. وأعلن أبو برهو أن خروجها من هذه الوحلة لم يعد ممكناً إلا إذا أحضرنا جراراً زراعياً (تركتوراً).. وتأسفَ لأن محرك سيارته من النوع (بركنز) الذي يمتاز بالسرعة والانسيابية في السهول، بينما يحتاج صعود الأماكن الجبلية إلى سيارة محركها (فردسون).. ثم نصحهم بأن ينزلوا من السيارة الآن، فهناك احتمال أن تنزلق، وتنقلب، وتسقط في الوادي، ووقتها لن يبقى بيننا من يُخبر أهالينا بأننا قُتِلْنَا!
اتجهت أنظار أفراد الشلة جميعهم نحو أبو لطفي، ليقينهم أنه سيعلّق على هذه المعلومات بطريقة مضحكة. وهذا ما كان فعلاً. قال:
- إذا انقلبت السيارة، وسقطنا جميعنا في الوادي، ومتنا، على قفا قندرتك أخي أبو برهو.. هؤلاء، أصدقائي الأعزاء الذين وَجَدُوا أن من مصلحتي أن أرافقهم لزيارة أبو حافظ في قرية الشيخ صطوف، يعلمون أنني عندما كنت صغيراً، أرسلني والدي، المرحوم لطفي الداروجة، إلى المدرسة، وصرت أتعلم، ولدى وصولي إلى الصف السادس، قال لي: يكفيك من العلم أنك أصبحت تفك الحرف، تقرأ وتهجي وتكتب، فتعال اشتغل معي في الدكان، لكي تكسب صنعة تعيش منها. وبالفعل، غادرت المدرسة منذ ذلك الوقت، ولكنني بقيت متعلقاً بالعلم، وحيثما وجدتُ حكمة أو موعظة مكتوبة على جدار، أو ورقة روزنامة، أقرؤها، وأحفظها، ومما قرأته، ذات يوم، أن مَن طلب العلا سهر الليالي، وأن مَن يتهيب صعود الجبال لا بد أن يمضي عمرَه بين الحفر. هل تعرف ما هي المعالي التي نحن ذاهبون إليها في هذا الجو البارد، في سيارة تتحرك في السهول بنشاط، وتحتاج إلى تركتور يشحطها لصعود الجبال؟ نحن، ببساطة، ذاهبون لنأكل، ونفرح بزواج حافظ، ابن أبو حافظ مختار قرية الشيخ صطوف! فلو متنا، في سبيل هذا الهدف النبيل، لا مشكلة، المهم أن نصل ونأكل ونفرح. ولكن؛ أريد أن أسألك، أخي أبو برهو، إذا لم نعثر على تركتور يُخرج سيارة حضرتك من هذه الوحلة، ما هو الحل برأيك؟
قال أبو برهو: أمامكم عدة حلول، الأول أن تنتظروا مرور سيارة ذاهبة باتجاه الشيخ صطوف، فتركبوا فيها وأنا أبقى هنا لأتدبر أمر سيارتي، والثاني مرور سيارة عائدة من قرية الشيخ صطوف، تركبون فيها باتجاه قرية البلاطة، ومن هناك تتابعون طريقكم إلى إدلب. والثالث أن يذهب واحد منكم، مشياً على الأقدام، إلى البلاطة، ويستأجر جراراً زراعياً، يأتي به إلى هنا، لنُخرج سيارة من الوحلة ونتابع فيها طريقنا.
قال أبو لطفي، بحماس: أنا. أنا مستعد أن أمشي، بل أركض إلى قرية البلاطة، وأحضر جراراً زراعياً ليشحط سيارتك ذات المحرك الفلتان، ولكن بشرط، أن نغير اتجاهنا، ونعود إلى إدلب.
قال أبو سليم محتجاً بقوة: والخواريف؟ لمن نتركها؟
وفي هذه الأثناء، خرج الفَرَج لأفراد الشلة من قلب الضيق. إذ جاء تركتور من طرف قرية البلاطة، وعندما وصل، قال سائقُه:
- السلام عليكم. أنتم ضيوف عمي أبو حافظ. صح؟
فذهل الجميع، وسأله أبو لطفي: بالله عليك كيف عرفت؟
(للقصة تتمة)