سمر رمضاني إدلبي (11)

16 مايو 2020
+ الخط -

حرب البقرات ودفاتر التموين

طرح الأستاذ كمال - في مستهل سهرة السمر الرمضاني الإدلبي - فكرة مهمة، وهي أننا نعيش في مدينة إسطنبول الأقرب في علاقاتها الاجتماعية إلى أوروبا، ومع ذلك نحافظ على طبيعة جلساتنا الإدلبية، ونستحضر عاداتنا الرمضانية من تناول الطعام الدسم عند الإفطار، تليه الحلويات، والسوائل، ونحافظ على عادة الفصل الكتيم بين الجنسين.. فترى الرجال يسهرون في غرفة، ويخوضون في أحاديث رجالية، والنساء إذا حضرن يسهرن في غرفة أخرى، ويتطرقن إلى شؤون النساء، كالعادة. وهذا الأمر درج عليه أهالي القرى السورية خلال تواجدهم في المدن السورية الكبيرة مثل دمشق وحلب وحمص، إذ يتقصد أبناء كل قرية السكنى في حارة واحدة، ويجتمعون معاً في سهراتهم، ويتحدثون عن القرية التي جاؤوا منها، ويحافظون على عاداتها وتقاليدها كما لو أنهم لم يغادروها قط، حتى إن صديقاً لي من قرية "حربنوش" القريبة من معرتمصرين، يقيم في حلب، حدثني أنه في يوم من الأيام أولم لأبناء حربنوش المقيمين في نفس حارته بحلب، وأثناء السهرة التبس الأمر على أحدهم فقال:

- اتصلوا بأبو سلوم خلي يجي يسهر معنا.

سأله آخر: وين أبو سلوم؟

قال: بهالوقت بيكون في بيته نادوا عليه بيجي بدقيقة..

ووقتها انتبه الحاضرون إلى أن هذا الشخص يعيش حالة التباس مكانية، وفي لحظة معينة خيل إليه أننا الآن في قرية حربنوش، وأن مجيء أبو سلوم أمر بسيط، وعندما انتبه إلى أننا في حلب ضحك وقال: الظاهر إني بلشت أخرف.  

أبو محمد: معك حق بكل شي قلته يا أستاذ كمال. بس نحن كنا عم نحكي بموضوع خطير إله علاقة بإدلب، يا ريت تخلونا فيه.

كمال: أي موضوع بتقصد؟

أبو محمد: إنته حكيت لنا إنك كنت مرة في الشام، وفي واحد من أصدقاءَك حكى لك إنه سمع من رفيق بعثي موظف في القيادة القطرية شغلة غريبة.. وهيي إنه القيادة القطرية مخصصة غرفة للتقارير الأمنية اللي بتجي من محافظة إدلب! معقولة يا أستاذ كمال إنه نحن أهل إدلب كتّاب تقارير وما عندنا خبر؟  

أبو زاهر: إذا بيسمح لي الأستاذ كمال أنا عندي جواب. يا عمي أبو محمد أنا لما كنت في سجن تدمر سمعت نفس القصة، يوميتها أنا وتنين من المساجين الأدالبة زعلنا من الصديق الشامي اللي حكاها، وقلنا له إنه هالحكي عيب، لو كانوا أهل إدلب بيكتبوا تقارير متلما إنته عم تحكي ما كنت شفتنا نحن هون. ومو بس نحن هون، السجن فيه عدد كبير من الشباب الأدالبة غيرنا.

أبو المراديس: أنا كمان في عندي شي أقولُه بهادا الخصوص. أول شي أنا بشوف إنه الموضوع إلُه أصل، لكن فيه مبالغة. يعني يا أبو زاهر الناس اللي كتبوا فيك تقارير ووصلوك لسجن تدمر من وين جايين؟ من الدانمارك مثلاً؟ لأ. هني من إدلب طبعاً. وتاني شي نحن عم نحكي عن غرفة مخصصة للتقارير موجودة في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وهادا الحزب مختص بكتابة التقارير (بشهادة بورد)، وأنا بعتقد إنه اللي اخترع فكرة إنه واحد يكتب تقرير برفيقه حتى يئذيه بالأصل بعثي. وتالت شي لازم نعرف إنه كتاب التقارير موجودين في كل المحافظات لأن البيئة العامة اللي صنعها نظام البعث ونظام حافظ الأسد هيي بيئة متباغضة، كيدية، وبدل ما أهل سورية يحبوا بعضهم، ويعيشوا بوئام/ ويساهموا في بناء الحضارة الإنسانية، بتلاقي الواحد عم يفكر كيف (ينفض) رفيقه بتقرير يطلع من قحف راسُه! وأنا بتذكر قصة جرت أحداثها قدامي لما كنت أنا موظف في مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية بدمشق سنة 1980.

أبو محمد (متشوقاً): هات لنشوف. أيش هيي القصة؟

أبو المراديس: كان معنا تنين موظفين واحد اسمه (سين) والتاني (عين).. بيكرهوا بعضهم لأسباب ما لها علاقة بالشغل. هني التنين من منطقة واحدة، وكانت عائلة سين على خصام مع عائلة عين.. سبب الخصام إنه من زمان في بقرات لجد سين دخلوا ع الحاكورة تبع جد عين، وتبين إنه جد عين باخخ المزروعات بسم قاتل، فتضرروا البقرات وعلقت بين العائلتين حرب. كان العرف في هديكه الديرة بيقول إنه اللي بيبخ مزروعاته بالسم لازم يخبر الجيران لحتى ما يخلوا حيواناتهم يدخلوا ويتسمموا. جد "عين" قال أنا طلعت ع المئذنة وقلت إني بخيت زرعاتي بالسم، ومو بس هيك رحت ودقيت الباب على جد "سين" وقلت له إني بخيت الزرع خص نص كرمال بقراتك، فإذا دخلوا حاكورتي وأكلوا منها وتسمموا أنا ما دخلني! ولكن جد سين اعترض وجمع أهل الضيعة وقال لهم: هوي صحيح قال لي هالشي وأنا فهمت واستوعبت، بس المفروض كان يقول هالحكي للبقرات.. لو البقرات عندهم علم ما كانوا دخلوا وتورطوا.

ضحكت أم زاهر وقالت: أشو هاد؟ شايفة إني دخلنا بمسلسل توم وجيري.

أبو المراديس: وإنتي صادقة القصة بتشبه حرب البسوس اللي استمرت سنين طويلة بسبب ناقة وجمل، وكانت الخسائر فيها مئات الألوف من النوق والجمال والرجال والنساء والأطفال.. والأهم من هيك إني السلالات العربية بتحافظ على نقاءها، وبتخلي التاريخ يعيد نفسه، ولكن بطرق مختلفة. واللي صار معنا في مؤسسة الإنشاءات العسكرية يوميتها إنه سين كان جايب دفاتر القسائم التموينية تبع أهله من الضيعة وعارضهم للبيع، فاشتراهم منه عين بثمن مقبول، ولكن عين، على حسب ما حكى لنا لاحقاً، أخد البونات حتى يبيعهن، ما انباعوا، يبدو كان في مشكلة عند تجار البونات لأنه أصحابهم مو من الشام، فجاب البونات وطلب من سين يرجع المصاري وياخد البونات، وسين قال أنا صرفت المصاري ع الملذات الشخصية.. وعلقت بيناتهم علقة طويلة عريضة، ونحن الموظفين معهم بنفس الغرفة حاولنا نصلح بيناتهم، وما توفقنا، وخفنا نتدخل أكتر لأن القصة كبرت وصار فيها تهديد ووعيد، وكل واحد صار يهدد التاني بأنه الحساب مو هون، الحساب في الضيعة.

أم الجود: ولي. وأشو صار بعدين؟

أبو المراديس: تاني يوم أجا سين ع الدوام، وما أجا عين. كان سين مبسوط ومشقرق. سألناه: شو القصة؟

فضحك وقال: خلص. عين راح. انحال ع محكمة الأمن الاقتصادي. الحد الأدنى بيروح فيها ست أشهر.

سألناه: شو تهمته؟

قال: عم يتاجر بقوت الشعب.  

وتبين إنه سين نافضه لـ عين تقرير من كعب الدست!

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...