عروس بنت جماعة أماثل
بقيتْ سيرةُ أبو جويّد عالقة في ذاكرة صديقي أبو سعيد، طوال الأيام الفائتة، بدليل أنه عندما اتصل بي، مساء البارحة، بادرني إلى القول إن أجمل ما سمعه عن زواج أبو جويّد، حكاية "الجماعة الأماثل".
- أسمعني إياها.
- بصراحة يا أبو المراديس، ذاكرتي أضاعت قسماً كبيراً منها. ولهذا اتصلتُ بك، فعلى علمي أنك تعرف كل حكاياته.
- صحيح.. وأنا، مثلك، أحب هذه الحكاية أكثر من غيرها. الحقيقة أنني عندما سمعتها منه أول مرة، أدهشتني، ولكن ذاكرتي أضاعت الكثير من تفاصيلها، فذهبتُ إليه، بعد أيام قليلة، بهدف أن أراه، وأجالسه، وأسمع حديثه الشيق، وأطلب منه أن يسمعني إياها مرة أخرى. وكان عندي، في تلك الأيام، دراجة نارية، امتطيتها ومررت بصديقنا المشترك أبو فوزي، وعرضت عليه فكرة مرافقتي لزيارة أبو جويد، فلبى دعوتي بحماس، لأنه من محبيه، بل من المولعين به، وأكملنا طريقنا إلى دار أبو جويد الصغيرة، التي كان يحلو له أن يسميها (أمّ المائة ليرة)، في إشارة إلى الـ 100 ليرة التي اقترضها من صديقه السيتير، وأصلح بها هذه الدار الصغيرة، واستقر فيها، وفي أحيان أخرى كان يسميها "الوكر".
- لماذا يسميها الوكر؟
- لأنه، بعدما تراكمت عليه الديون، وكثر دائنوه، صار (يُوَكِّر) في الدار مثل الضبع، ومن باب الاحتياط الأمني أحدث فيها عدة نقاط للمراقبة، فإذا طُرق الباب، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه أن الطارق واحد من الدائنين الذين كانوا يأتون إليه لتحصيل ديونهم، وهو ليس لديه، كما قال بديع الزمان الهمذاني (عَقْدٌ على نَقْد)، فما الجدوى من فتح الباب؟
- هذه فكرة جميلة بحد ذاتها.
- طبعاً. وكان قد أحدث ثقباً في الجدار المطل على الزقاق، ينظر منه خلسة عندما يسمع وقع أقدام تقترب، فإذا كان القادم واحداً من الدائنين، يجلس في مكانه، لا تصدر عنه أية حركة، وبعدها يَسمع الطرق على الباب، فيطنّش، دواليك حتى ييأس الرجل (الدائن) وينصرف، وأما الإجراء الثاني، فيتعلق بالصوت، ففي بعض الأحيان لا يسمع وقع الأقدام، ويُفَاجأ بطرق الباب، ووقتها لا يفتح حتى يسمع صوت الشخص القادم، ويتأكد أنه من أصدقائه، مثلنا نحن، فيفتح.
وكان أبو فوزي متمرناً على إخراج أبو جويد من وكره، ويعرف الطريقة المثلى لاقتحام عالمه، وهي أن يتوقف لحظة في المكان المقابل للفتحة الجدارية، ليُريه نفسه، ويصيح بصوت خافت: أبو جويد. أبو جويد. ثم يتابع السير إلى الباب، ويبدأ بطرقه مع تكرار عبارة: أبو جويد، أنا أبو فوزي، افتح ولا تخف. ووقتها يفتح له، ويستقبله ببشاشة.
- بصراحة يا أبو مرداس؟ أنا لا أعرف هذه التفاصيل، لأنني كنت ألتقي بأبو جويد في مقهى الريحاني، بين حين وآخر، ولم يصادف أن زرته في داره.
- المهم؛ فتح لنا أبو جويد مستبشراً، وقال: أهلاً وسهلاً. يا الله، أنيخوا الجِمَال، وأنزلوا الأحمال.
- وما قصة الجِمال والأحمال أيضاً؟
- قصتُها أننا كنا، أبو فوزي وأنا، مطلعان على حقيقة وضع أبو جويد المالي، ولذلك نُحضر له، في كل زيارة، سكراً وشاياً وقهوة، وعلبَ سجائر، وأحياناً يناوله أبو فوزي خمس ليرات، بعد أن يقوم الاثنان بحركة تمثيلية، يقتبسانها من طريقة الأب عندما يعطي خرجية لابنه صباح العيد: يمد أبو فوزي يده ليبوسها أبو جويد، وبعد أن يبوسها، يسحبه منها إلى زاوية صغيرة في المطبخ ويقول له:
- تلاتة شاي يا ولد.
وأبو فوزي يصيح على طريقة عامل المقهى المصري:
- أيوه جاي.
نأتي الآن إلى الحكاية، ففي ذات يوم، جاء أبو سليمان الطوط لزيارته، ورآه من فتحة الجدار، فسارع إلى فتح الباب واستقباله بالترحاب، لأن الطوط، بالنسبة لأبو جويد شخص مُسَلٍّ، ومصدر رائع للحكايات التي كان يرويها لنا، فنستمتع، ونضحك، ونحفظها، ونتناقلها شفاهاً.
- أنت، يا أبو المراديس، تنقلها إلينا تحريراً. يعني أنك توثقها وتجعل لها قيمة أدبية.
- طيب. المهم؛ أبو سليمان الطوط زف لأبو جويد البشرى، بأنه عثر له، هذه المرة، على عروس لا يمكن لعاقل أو مجنون أن يفوتها، اسمها شمشوم..
استوقفه أبو جويد، وقال ساخراً:
- شمشوم الجبار؟
- اسكت ولاك طشم، لا تتبايخ، اسمها شيماء، وأهلها ينادونها شمشوم، المهم أنا، عندما عرفت قصتها، وهي أنها لا تهتم لمال، أو جاه، أو عائلة، وأنها تريد شاباً جميلاً، خطرت أنت في بالي، فلم أكسل، وذهبت من توي إلى مكتب والدها في سوق الصياغ، وسلمت عليه، وقلت له إن صاحبي أبو جويد، أحسن عريس يمكن أن يتقدم لابنتك. وعندما سألني عن مواصفاتك، قلت له إنك فقير، ومنحوس، وداشر في الأزقة مثل الكلب قطاش، ولكنك شاب تقلع توتة، وشكلك، من دون مبالغة، أحلى من حسين فهمي تبع السينما.
- وأيش قال لك والدها؟
- قال لي: نحن لا يهمنا المال، وبناء على كلامك، أنا مستعد أن أزوجه شمشوم، ولكن يا أبو سليمان أنت تعرف مركزي في المدينة، لذلك يجب على صاحبك أن يطلب يدها بشكل لائق، وحسب الأصول.
هز أبو جويد رأسه وهو يسمع هذا الكلام، وسأل صديقه الطوط: وكيف يكون الشكل اللائق للخطوبة بحسب رأيك يا مسيو طوط؟
- أولاً، تذهب والدتك وتطلبها من والدتها، وتعلمها أنك سترسل إليهم جاهة رجال إذا تمت الموافقة المبدئية. ولكن قل لي. والدتك ماذا تلبس عادة؟
- مثل نسوان إدلب. ملحفة خراطة.
- لا لا. لا يمشي الحال. قلت لك إن هؤلاء جماعة أماثل.
- طيب، ماذا ينبغي عليها أن تلبس؟
- تلبس مانطو، وبدلاً من الحجاب تضع على رأسها قبعة (كاسكيتة)، لأن الجماعة، كما أخبرتك، أماثل.
انفلت أبو جويد بالضحك، وما عاد الطوط قادراً على إسكاته.. وأخيراً، أفهمه، أن هذا الضحك سببه أنه صار يتخيل والدته وهي ترتدي المانطو والكاسكيتة!