سلامٌ في اليمن... وحربٌ في السودان
ليس هناك شيء جميل في الحرب إلا انتهاؤها، لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها دائما، فبعض السلام أسوأُ من الحرب نفسها، هذا ما نراه واقعاً في محادثات السلام بين التحالف والشرعية اليمنية بأطيافها المختلفة من جهة، وجماعة الحوثي من جهة أخرى.
ليست المشكلة في اتفاقية السلام ذاتها، فالسلام مطلب الشعب اليمني، وغاية آماله وأمانيه بعد ثماني سنوات عجاف من الحرب الطاحنة التي لم تبق ولم تذر؛ حرب أكلت الأخضر واليابس؛ ولكن السلام الذي يضفي الشرعية على الجماعات المسلحة التي تفرض أفكارها الدينية والسياسية بقوة السلاح وبالانقلاب على دستور البلد ومبادئه، يمهد لصراعات قادمة لا محالة، طال الزمان أم قَصُر.
في اليمن، لم تستطع جماعة الحوثي الاستيلاء على السلطة في 2015 بذكائها، بل بغباء خصومها من النخب السياسية الأخرى، والتي فضّلت الصراع في ما بينها بعد ثورة الشباب في 2011 على مصلحة الوطن. وبعد كلّ هذه التضحيات العظيمة التي قدّمها الشعب اليمني في الفترة الماضية، أملاً في حياة كريمة ومستقبل مشرق يتساوى فيه الناس جميعا تحت ظلّ القانون، دون أيّ اعتبارات مناطقية أو طائفية، كان من المتوّقع توحيد القوى السياسية ومواصلة العمل حتى تعود جماعة الحوثي إلى رشدها، وتقبل الاحتكام للدستور اليمني وتُسلِّم السلطة وسلاح الدولة ومواردها المالية، وتنخرط في العمل السياسي بشكل سلمي كحزب سياسي مثل سائر الأحزاب والقوى المدنية، لكنّ ما حدث هو العكس تماماً، إذ نرى التخبّط الواضح لأطياف الشرعية اليمنية وانحراف بوصلتها في اتجاهات وغايات مختلفة، والتباين الكبير بين مكوّناتها، ما أثّر سلباً على موقفها في المفاوضات، مقابل قوة وصلابة في موقف جماعة الحوثي، والتي أصبحت رقماً يصعب تجاوزه.
وهنا، يبدو أنّ التقارب السعودي الإيراني أخيراً دفع بعجلة المحادثات بين جماعة الحوثي والشرعية اليمنية ومن يدعمها، وشهدنا تطوّراً ملحوظاً في محادثات السلام في العاصمة صنعاء، عبّرت عنه زيارة السفير السعودي إلى اليمن ولقائه بجماعة الحوثي. وبالمثل أيضا، في ما يخصّ التقارب السعودي السوري، الذي يسير في سياق مشابه ومشبوه في الوقت نفسه. هذا التقارب الذي ضرب عرض الحائط بكلّ القيم والمواثيق الإنسانية مع كيانات لا تحترم مبادئ حقوق الإنسان ولا كرامته، تقارب يثير الشكوك حول الدوافع والغايات، وحول موقف تلك الأطراف أساسا من الوضع في سورية واليمن.
السلام الذي يضفي الشرعية على الجماعات المسلحة التي تفرض أفكارها الدينية والسياسية بقوة السلاح وبالانقلاب على دستور البلد ومبادئه، يمهد لصراعات قادمة لا محالة
أثبتت التجارب أنَّ أيّ حوار مع أيّ كيان يفتقد للقيم الإنسانية والشرعية تكون عاقبته وخيمة، بل ومجرّد التفكير فيه يثير الاشمئزاز، أما القبول به فهو موافقة وإقرار بالجرائم المرتكبة بحق الشعوب، ناهيك عن أنّ هذه الأنظمة لديها تاريخ مخز، وسجل حافل بالانتهاكات والجرائم والإبادة الجماعية بحق شعوبها (النظام السوري مثالا)، فكيف يعقلُ التحاور مع هذا النظام، وهو ما زال يمعنُ في شعبه قتلاً وتشريداً؟ وكما يقول المثل الشعبي "من جرّب المجرب فعقله مخرب".
السلام المنشود في اليمن اليوم قابلته حرب مشتعلة في السودان، وللأسباب نفسها التي أشعلت فتيل الحرب في اليمن تقريبا، فجوهر المشكلة يكمن في المليشيات المسلحة: انقلاب يتلو انقلابا، وكلّ فريق يدّعي مصلحة الوطن، والوطن يرزح تحت الرصاص، وإذا لم تحدث معجزة توقف هذا الاقتتال فسوف نرى مأساة اليمن تتكرّر في السودان. فطالما أنّ الأسباب واحدة، فالنتائج غالبا متشابهة، والدور الإقليمي، سلباً أو إيجاباً، حاضر، وبقوة في السودان أيضا.
شعوبنا العربية ليست متلهفة للحرب ولا تريدها، ولم تسع لها يوماً، واليمن والسودان ليسا استثناءً، وما نمرّ به من أزمات إنّما هي تراكم لسلسلة طويلة من الأخطاء والسلبيات والظواهر التي عمّقتها الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، حيث وجدت الشعوب نفسها بين مطرقة الأنظمة القمعية والطائفية وسندان النخب السياسية المعارضة التي لم تقدّم بديلاً مقبولاً إلا في حالات نادرة؛ حيث جرى الانقلاب على الثورات والمعارضات في وقت مبكر جداً من قبل الدولة العميقة وفلول الثورة المضادة، ولم تعط الفرصة لتقديم نموذج مختلف يرتقي بهذه الشعوب ويسعى لتقدّمها.
سننتظر قليلا حتى نرى نتائج ومآلات هذه السياسة الجديدة المبنية على التقارب مع إيران بالنسبة لليمن وسورية، وإن كنت لا أتوقع الكثير من هذا التقارب، بينما ننتظر معجزة أخرى توقف الاقتتال في السودان العزيز على قلوبنا.