الأندلس وإصلاح الرؤية!

24 مايو 2023
+ الخط -

كان أبي (أطال اللّٰه في عمره)، يردّد على مسامعي قولاً أو مثلاً في مناسبات عدة يستدعيها ذلك القول، لا أعلم من أين أتى به، لكنه ينطبق تماماً على حالنا اليوم. المثل يقول: "الهندي إذا خَسِرَ يقلّب دفاتره"، بمعنى أنه يعيد النظر في دفاتر البضائع والديون، فيرى الخلل فيها ويصلحه، ثم يحسب ما بقي له في ذمة الناس من فلوس قليلة، فيتكوّن لديه منها رأس مال جديد، يستطيع من خلاله استئناف تجارته.

نحن بحاجة أيضاً إلى النظر في دفاترنا القديمة لمعرفة الخلل، لا لمجرّد النظر. ولكي نخرج بجديد ومفيد من تلك الدفاتر، يجب إصلاح العدسة التي نرى من خلالها الدفاتر، فربما كانت متسخة أو غير صالحة، فتضيّع علينا كثيراً من الفلوس، أقصد من التفاصيل المهمة. وربما، كانت عدسة سوداء ترينا الأشياء على غير حقيقتها، وربما كان فيها قصر نظر، فلا نرى ما بعُد عنا، أو طول نظر، فلا نرى ما بين أيدينا. إنها الرؤية إذاً، أو كيفية الرؤية، الرؤية الصحيحة التي ترينا الأشياء كما هي بلا ضبابية أو إشكال، حتى نسير في الطريق الصحيح بلا تعثّر.

أقول هذا لأني أتابع بعض الصفحات المهتمة بتاريخ الأندلس، لا جديد في كثير من هذه الصفحات والمواقع، إذ يشعرني ما يكتب فيها بالأسف على حالنا، كأننا شعوب كلما طحنها الدهر بكلكله، وتطاولت علينا الأمم بتقدمها العلمي، هرعنا إلى بطون الكتب وأسفار التاريخ نبحث عن شيء يعوّض هذا النقص، أي شيء، المهم أن يكون لنا شيء يعيد لنا الثقة والتوازن، ولا ضيرَ في ذلك، إذا كان الهدف شحذ الهمم، وقدح زناد الفكر، وإذكاءً لروح التفاني في سبيل رفعة هذه الأمة وتقدّمها.

لكن الاستغراق في ذلك الماضي الجميل، ورسم صورة مثالية عنه في الأذهان يثبط الهمم ربما، ويشتّت التفكير، ويرخي العزائم إذا ما قورن بما تمرّ به الأمة من ملمات ونوائب. وفي نظري أن ذلك يحول بيننا وبين الاستفادة مما بين أيدينا من إمكانات هائلة نستطيع النهوض بها من جديد إذا ما استُغلَّت الاستغلال الأمثل.

صادفت أحدهم قال لي: "سنستعيد الأندلس"، فقلت له "أعد صنعاء وبغداد ودمشق والقدس فهم أقرب".

الأندلس، ذلك الفردوس المفقود الذي أصبح اليوم إسبانياً، تجد الكل يبكي شوقاً عليه وعلى تلك الحضارة، على رسومها الدارسة، على مدنها الجميلة، وتاريخها المضيء، لكن كلّ ذلك يجري بنوع من العاطفة لا أكثر، فقلة فقط من يدرسون تاريخ الأندلس، ويسبرون أغواره بدقة، للخروج بنتائج مفيدة من تلك الحقبة.

نريد أن نتذكر الأندلس، ليس للبكاء ولا للفخر، فهما الآن مجرّد تحصيل حاصل، فلا عزاء في مصيبة السقوط  ولا ثناء في حسنة الصعود، لأنه من صنع أجدادنا الأوائل، فالفخر لهم في ما صنعوا والعتب عليهم في ما فرّطوا وضيّعوا، بل لمعرفة شروط النهضة وأسباب السقوط، للاستفادة منهما في بناء المستقبل، ويحضرني بيتان من الشعر يحسمان الجدل في الفخر أو البكاء على حضارتنا السالفة ومجدنا القديم، حيث قال القائل:

لسنا وإن أحسابنا كرُمت 

يوماً على الأحساب نتكلُ

 

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونفعلُ مثلما فعلوا

 

أما أن نفتخر بتاريخ لم نشارك فيه، ولم يكن لنا فيه ساق ولا قدم، فقط لمجرّد الفخر، فهذا هو سقوط آخر أشدّ وأنكى من سقوط الأندلس. وقد رُوي أنّ عبد الرحمن الداخل قال عن دولته في الأندلس: "بجِدِّي لا بجَدي وبيدي لا بسَعَدَي"، أي إنه لم يعتمد على إرث أجداده ملوك بني أمية في الشام، بل خرج شريداً طريداً، ثم كان ما كان من أمره بجدٍ واجتهادٍ وعمل. وقد صادفت أحدهم قال لي: "سنستعيد الأندلس"، فقلت له: "أعد صنعاء وبغداد ودمشق والقدس، فهي أقرب".

لو رأينا جيداً لاستطعنا بناءَ أندلسٍ جديد في كل مِصرِ وقُطرِ عربي، أندلس يجمع تحت رايته كلّ ما في الشرق من تنوّع وجمال وتراث، تماما كما كان الأندلس

إنها الرؤية مرة أخرى، فلو رأينا جيداً لاستطعنا بناءَ أندلسٍ جديد في كل مِصرِ وقُطرِ عربي، أندلس يجمع تحت رايته كلّ ما في الشرق من تنوّع وجمال وتراث، تماماً كما كان الأندلس.

ليست النهضة بالأمر السهل الذي نستطيع القيام به بجرّة قلم، خصوصاً أننا في زمن كثر فيه القائلون وقلّ العاملون، لكن ليس مستحيلاً إذا وُجدت النية الصالحة والعزيمة الصادقة، إذ رغم كلّ ما تمرّ به الأمة من أزمات وحروب، يجب أن نستفيق، والاستفاقة بعد المصيبة من الأمور التي حمدها النبي صلى الله عليه وسلم في الروم، كما في حديث مسلم: "إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ".

أجزم بأنه لو كانت لنا هذه الخمس لأفقنا من هذه الغيبوبة، ولكنا الآن أندلساً، عظيماً حياً، ملء السمع والبصر.