سرقة الكتب... يا لها من مهمة مقدسة
سرقت كتاباً آخر من المكتبة.
الآن، وصلت حصيلة الكتب التي سطوت عليها من مُعظم المكتبات المعتمة (التي لا يصل إليها ضوء الشمس) إلى ثلاثمائة وخمسة وأربعين كتاباً. آه، إنّ هذا الأمر يثيرني حتى الجنون، أجد نفسي سكران بنشوة خالصة، أشعر بتلذّذ خاص، كأني أبداً ما تلذّذت بهذه الطريقة، كأنّي أبداً ما عرفت مغزى أن أكون سعيدا، إلا وأنا أسطو على كتاب، يناديني مغناطيسه وهو محشور بين الكتب، بغضّ النظر عن شكله وطبيعة محتواه.
هوس، إن صحّت التسمية، ابتليت به منذ أربع سنوات، بالضبط إن لم تخنّي الذاكرة، بعد خمسة أو ستة أشهر من وفاة، جدتي جمعة، المرأة الأسطورية، خليفة شهرزاد، مُستودع الحكايات الذي لا ينضب، المرأة الساحرة التي سحرتني بحكيها طويلا، إذ كنت أنا وأختي إلهام التي تصغرني بثلاث سنوات، الأبناء الوحيدين لعائلتي المنحدرة في أصلها من منطقة دكالة في المغرب. وعندما لا يسمح لنا الطقس الممطر بالخروج أو عندما يخيّم الظلام على نصف العالم، بعد أن تكون الشمس قد ذهبت كي تنام، نجلس عند فراشها حين يكون مزاجها رائقا، في كوخنا الصفيحي، المبني بالطوب والمسقّف بالقصدير، طالبين منها أن تقصّ علينا قصة من قصصها العديدة.
وعلى ضوء الشمعة التي تبدأ بالذوبان فوق المائدة الخشبية المستديرة (حيث لا نتوفر على الكهرباء) تشرع جدتي بحكي حكاياتها ليتشكل من الكلمات التي تخرج من فمها عالم خيالي من الحكايات الغريبة والعجيبة، حكايات العفاريت والجنيات والغيلان والملوك، وما إلى ذلك من الأمور الغرائبية... فتختفي الغرفة الضيّقة التي تشبه علبة سردين بجدرانها العارية المتقشّرة والمتشقّقة، ويختفي السقف القصديري، والذي كلما مرّ من فوقه قط يطارد جرذ قذر، خيّل إلينا أنّ السقف سيسقط فوق رؤوسنا، لأجد نفسي في عالم آخر، أشارك في أحداث قديمة حيث كان العالم سحريا، أقوم بأشياء خارقة، وقد تحولت، في الحكاية المفضّلة عندي، الى ملك يقاتل الغيلان والوحوش المتشحة بالسواد، بشجاعة وحيلة وذكاء من أجل إنقاذ الفتاة التي يحبها من قبضتهم. بهذه الطريقة، كانت جدتي تسحرنا وتفتننا بقصصها العديدة. هكذا كانت تعالجنا جدتي بحكاياتها من الحرمان الذي عشنا فيه، مثلما عالجت شهرزاد، الملك شهريار.
كانت جدتي تسحرنا وتفتننا بقصصها العديدة، وهكذا كانت تعالجنا بحكاياتها من الحرمان الذي عشنا فيه، مثلما عالجت شهرزاد، الملك شهريار
في البداية، بداية هذا الفعل القاهر، تساءلت أكثر من مرّة ، دون أن أعثر على جواب شافٍ، عن السبب الذي يدفعني الى الانجذاب لسرقة الكتب: هل هي مجرّد محاولة بئيسة لملء الفراغ الذي تركه موت الجدة؟ أم أنه اضطراب نفسي ويجب علي أن أتعالج منه؟
غير أنني، رويداً رويداً، بدأت أتفهم أنّي بهذا الهوس القاهر، وبهذا الفعل كنت أضخ دماءً جديدة في الكتب التي يقتات من روحها وحش الموت، قطعة قطعة، وهي قابعة في رفوف المكتبات، منتظرة جودو الذي لا يأتي. فالمكتبات (وأعتذر عن قول ذلك) مقابر للكتب، خصوصاً مكتباتنا الزائفة بجدرانها الرطبة، ومنظرها الذي يبعث كآبة في النفس، يجعلك تحسّ بشيء ما لا تتبيّن كنهه.
وقد يزداد الأمر سوءاً وألماً عندما تكون ممتلئة (وهو أمر نادر الحدوث باستثناء بعض المناسبات) بتلك الكائنات الطفيلية التي تذهب فقط من أجل أخذ صور مع رفوف ممتلئة حدّ الوجع بكتل من الكتب، من أجل نشرها على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، طمعاً في أكبر عدد من المعجبين والمادحين.
الأمر الذي كان يدفع يدي، يدي المباركة، يدي المقدسة، يدي التي لا تخطئ (وجيبي كان دائما خاوي الوفاض) إلى تلقف الكتب ودسّها تحت نطاق سروالي أو في جيوب سترتي بمنأى عن أعين الناس، وبدون لفت للانتباه. وبهذه الطريقة أنقدها من نهايتها البئيسة، وذلك بضخ دماء جديدة في شراينها، منحها الحياة (إن جاز التعبير) وإعطائها صوتا لتنطق به. وما إن أنتهي من قراءتها حتى أعيرها (وهذا الفعل هو ما يجعل الكتب تبقى حية أكثر) لأصدقائي القرّاء، وبالأخص صديقي أشرف المصاب مثلي بمرض القراءة الذي لا شفاء منه. أشرف الذي أطلق عليه دودة الكتب. ذلك النحيف كهيكل عظمي، ذو الوجه المستطيل والعينين الغائرتين في محجريهما، الذي يلتهم الكتب، يفترسها. دائماً أجده واقفاً أمام مجموعة من الكتب باحثاً عن كتاب أو رواية رخيصة تتناسب مع ما تحمله جيوبه من دراهم. لكن، للأسف، لم يكن يجد ما يتناسب مع جيبه، ليعود خائباً وهو يجرّ أذيال الهزيمة بظهره المقوّس الى غرفته الحقيرة.
في النهاية ماذا عساني أفعل أمام بؤسه الإنساني في حالتي هذه غير أن أعيره كتاباً نهبته بسهولة؟ هكذا أتحوّل إلى كائن مقدس ينفخ روحاً جديدة في الكتب، وفي الأصدقاء.