الكتب كعلاج

09 يناير 2023
+ الخط -

لا زلت أتذكر اللحظة التي اكتشفت فيها ما يمكن أن تفعله الكتب، وما توفره من ملاذ آمن، منذ ذاك الوقت لم تعد الكتب تفارقني. وتحولت القراءة عندي إلى أسلوب حياة، تمارين روحية أواجه بها ما يحدث  في العالم من أحداث. 

كنت قد انتقلت لتوي إلى مدينة الدار البيضاء، بعد أن حصلت على وظيفة في إحدى الشركات التي تجعلك تقوم بعمل روتيني سيزيفي، نسبة إلى سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة في الأساطير اليونانية بدفع صخرته إلى ما لا نهاية.

حصلت على شقة تحتوي على غرفتين ومطبخ ومرحاض في بناية قديمة قدم الحي نفسه، تطل على شارع كبير يخترق الحي المكتظ دائماً، من المنتصف. وبعد مرور سنة ونصف، جاء فيروس كورونا، جاء دون أن نتوقعه، ومعه جاءت حالة الطوارئ الصحية، فوجدت نفسي في وضع غير مألوف، وضع كان وقعه صادماً، أحدث في حياتي ما يشبه الرجة، صرت متوقفاً عن العمل وممنوعاً من العودة إلى قريتي، ومسجوناً في هذه الشقة الرخيصة، لا أخرج منها إلا إذا دعت الضرورة لذلك.  

وما كان يزيد الطين بلة، أني كنت مسكوناً بالخوف من هذا الوحش الفتاك الذي لا تمكن رؤيته. وانهالت عليّ أحزان لم أستطع الفكاك منها. وتراكمت في نفسي مشاعر لم أعرف كنهها. وفي خضم ذلك، قرأت بالصدفة مقالاً على هاتفي المحمول، مضمونه أنّ الكتب تملك قدرة علاجية تخفف من شدة هذا الوضع الذي لم تعرفه البشرية منذ عشرات السنين.

وبعد أن قرأت المقال، تذكرت أنّ أحد ساكني هذه البناية، المهددة بالسقوط في أي لحظة، ترك عندي، مع بداية انتشار الوباء، ثلاثة صناديق كرتونية ضخمة، مليئة بالكتب المستعملة التي يبيعها في سوق الخردوات الأسبوعي، بعد أن تعلل بأنّ شقته ممتلئة وليس هناك مكان لها، خصوصاً أنه متزوج وأب لطفلين ويخاف أن تمتد إلى هذه الصناديق يد أطفاله وتعبث بها، ولأن شقتي فارغة على عروشها، وافقت. لم يكن لدي أي مانع. 

القراءة هي أن نصبح آخر، القراءة هي أن نصبح ما لسنا نحن

وعندما تذكرت ذلك، اتصلت به وأخذت منه الإذن، فوافق بكل فرح، قمت بفتح أحد هذه الصناديق، وإفراغه من محتوياته، وجدت فيه الكثير من الكتب، وأمام هذه الوفرة، تملكتني الحيرة، فأي كتاب أبتدئ به، لو كان هناك كتاب واحد في الصناديق، لكنت سأكون في غنى من هذا المأزق، مأزق الاختيار. فأصعب شيء هو أن يختار المرء بين خيارات عديدة.

لكن لم تدم حيرتي طويلاً، سرعان ما لفت انتباهي كتاب للكاتب المغربي محمد شكري، يحمل عنوان الخبز الحافي، كان الكتاب مشهوراً، فكم من مرة سمعت اسم محمد شكري وكتابه الخبز الحافي، لكنني لم أكن قد اطلعت عليه. لهذا اخترت البدء به بالرغم من شكي في أنّ الكتب يمكن أن تجلب الهدوء إلى حياتي. 

غير أنه منذ الصفحات الأولى للكتاب، اختفى شكي وعرفت أن ما قيل بشأن الكتب لم يكن سراباً وإنما حقيقة. فلأول مرة منذ بداية الوباء، لم أعد مشغولاً بالوضع المقلوب الذي أعيشه، وبدل ذلك، أصبحت مشغولاً بمصير الصبي شكري البائس، أتابعه في رحلته المأساوية رفقة أسرته من الريف إلى طنجة هرباً من المجاعة القاتلة التي فتكت بالأخضر واليابس. وأعيش معه حياة الصعلكة والتشرد في أزقة طنجة. بل أكاد أقول إنّ الأمر تجاوز مجرد العيش معه، فبالانغماس في قراءة الكتاب، حياته لم تعد حياته وإنما حياتي، فأنا أصبحت محمد شكري. تقمصت شخصيته واكتشفت ما لم أكن أعرفه: القراءة هي أن نصبح آخرين، القراءة هي أن نصبح ما لسنا نحن. 

وفي النهاية، فهمت بشكل عميق، مع هذا الكتاب والكتب الأخرى التي تلته، القوة التي تقبع خلف الكلمات: "الكلمات تشفي وتحرر وتداوي الأرواح المعذبة". وروحي كانت معذبة، وجاءت الكتب لتخفف من عذابها. فما أوحش ألا يجد المرء ما يخفف به من شدة أيامه الحزينة المظلمة.

دلالات
حمزة الذهبي
حمزة الذهبي
كاتب من المغرب، حاصل على الإجازة ومهتم بالأدب، يكتب المقال والقصة. يعرّف نفسه بقول سقراط "اعرف نفسك بنفسك"