سد النهضة... بين واقع جديد ومسرحية التصعيد

05 سبتمبر 2024
+ الخط -

على مدار السنوات الأخيرة، تصدّرت قضيّة سدّ النهضة الإثيوبي المشهد الإقليمي، محوّلة مياه النيل من مصدرٍ للحياة إلى بؤرةِ توتّرٍ وصراع. فقد تحوّلت السدود من أدوات للتنميّة إلى أسلحةٍ سياسيّة، ليجدَ المصريون أنفسهم أمام معادلةٍ معقّدةٍ تحكمها المصالح الوطنيّة والمياه والجيوبوليتيك.

خلفية الصراع حول سدِّ النهضة

لقد بدأتْ أزمة سدّ النهضة في 2011، عندما أعلنت إثيوبيا مشروعها الطموح لبناء سدٍّ على نهر النيل الأزرق، وهو النهر الذي يعتبر شريان الحياة الأساسي لمصر. من منظورٍ تاريخي، بُنيت المفاوضات حول المياه على اتفاقيات تعود إلى العهد الاستعماري، حيث حُدّدت حصّة مصر بـ55.5 مليار متر مكعب من المياه وفقًا لاتفاقية 1959 بين مصر والسودان. لكن إعلان إثيوبيا عن سدّ النهضة جاء ليغيّر هذه المعادلة، مُطلقاً حقبة جديدة من الصراع على المياه.

منذ ذلك الحين، لم تنجح المفاوضات الثلاثيّة بين مصر والسودان وإثيوبيا في تحقيق توافق على آلية ملء السد وتشغيله. بل بالعكس، انتهجتْ إثيوبيا سياسة مستقلة في ملء السد على مراحل، متجاهلة مخاوف مصر والسودان بشأن تأثيره في حصتيهما من المياه.

مواقف الأطراف المختلفة

لقد اتخذتْ مصر موقفًا واضحًا منذ البداية، حيث اعتبرت سدّ النهضة تهديدًا وجوديًا لأمنها المائي. وفي هذا السياق، جاء التحّرك المصري الأخير بتوجيه خطاب إلى مجلس الأمن الدولي لتأكيد خطورةِ الخطواتِ الإثيوبيّة الأحادية، والتهديد الذي يشكّله السدّ على استقرار المنطقة. مصر أكدت أنّها على استعداد لاتخاذ جميع التدابير للدفاع عن وجودها ومصالحها، ما يعكس مدى القلق الذي تشعر به تجاه هذا الملف.

من جهتها، تعتبر إثيوبيا أنّ مشروع السدّ حقّ سيادي تملكه بموجب قوانين التنميّة المستدامة، وأنّه لا ينبغي لأيّ دولةٍ أن تفرضَ عليها شروطًا تتعلّق بإدارة مياهها الوطنية. إثيوبيا تعوّل على السدِّ لتحقيق قفزة نوعيّة في إنتاج الطاقة الكهربائيّة، وتعزيز تنميتها الاقتصاديّة، وتؤكّد في الوقت نفسه أنّ السدَّ لن يؤثّر كثيرٍاً بتدفق المياه إلى دول المصب.

انتهجتْ إثيوبيا سياسة مستقلة في ملء السدِّ على مراحل، متجاهلة المخاوف المصريّة والسودانية بشأن تأثيره على حصتيهما من المياه

أمّا السودان، فهو يجد نفسه في موقفٍ معقد، إذ يوازن بين استفادته من الطاقة الكهربائية التي سيوفرها السد، والمخاوف من الآثار البيئية والاقتصادية، خصوصاً في ما يتعلّق بإدارة الفيضانات وسلامة السدود.

الخيار العسكري: الحقيقة والمسرحية

على الرغم من التصريحات المتكرّرة حول استعداد مصر للدفاع عن مصالحها بكلِّ الوسائل، يظلّ احتمال اللجوء إلى الخيار العسكري محدودًا. هناك العديد من الأسباب التي تجعل الضربة العسكريّة لسد النهضة غير واقعية، لعل أبرزها المخاطر الكارثيّة التي قد تنجم عن انهيار السد واندفاع المياه نحو السودان ومصر، ما سيؤدّي إلى خسائر بشرية ومادية هائلة.

وبالنظر إلى التحرّكات المصريّة في الصومال، التي فُسّرت على أنّها جزء من استراتيجية الضغط على إثيوبيا، يبقى التساؤل عن مدى فعاليّة هذا النهج. فوجود الجيش المصري في منطقة القرن الإفريقي قد يشير إلى محاولة لإحراز نفوذ في تلك المنطقة، لكنه لا يرقى إلى تهديدٍ مباشر لإثيوبيا، التي تبدو واثقة من قدرتها على مواصلة مشروعها دون عراقيل كبيرة.

إعلان المبادئ: البذور الأولى للأزمة

لا يمكن فهم الأزمة الحالية دون العودة إلى توقيع مصر على "إعلان المبادئ" في 2015، الذي أعطى إثيوبيا غطاءً قانونيًا دوليًا للمضي قدمًا في بناء السد. وتحت قيادة عبد الفتاح السيسي، وُقِّعَ هذا الإعلان الذي يعتبره البعض بداية الانحدار في مسار التفاوض، حين منح إثيوبيا شرعيّة بناء سدّ النهضة دون ضماناتٍ واضحة لحماية حقوق مصر المائيّة.

إعلانُ المبادئ لم يكن مجرّد وثيقة تفاوضيّة، بل كان نقطة تحوّل استراتيجية في ملف سدّ النهضة، حيث أعطى الضوء الأخضر لإثيوبيا لتنفيذ مشروعها دون خوف من تداعيات قانونيّة أو دبلوماسيّة. هذا الإعلان وضع مصر في موقفٍ تفاوضيٍ أضعف، حيث أصبح من الصعب عليها أن تعترضَ على مراحل ملء وتشغيل السد، خصوصاً بعد أن وقعت بنفسها على اتفاقيّةٍ تعترف بمشروعيّة المشروع.

اعتبرت مصر سدّ النهضة تهديدًا وجوديًا لأمنها المائي

وبالنظر إلى التحرّكات المصريّة اللاحقة، يبدو أنّ هذا الإعلان كان بمثابة الخطأ الاستراتيجي الذي أطلق الأزمة، وجعل مصر الآن في موقفٍ أكثر تعقيدًا، حيث تسعى جاهدة للدفاع عن حقوقها المائية بعد أن فقدت جزءًا كبيرًا من قدرتها على التأثير في مسار الأحداث.

ماذا بعد؟ الخيارات المتاحة أمام مصر

مع اكتمال ملء خزان سدّ النهضة، تجد مصر نفسها أمام خياراتٍ محدودة. من جهة، يمكن لمصر مواصلة المسار الدبلوماسي من خلال التوجّه إلى مجلس الأمن، ومحاولة التوصّل إلى اتفاقٍ جديد يضمن حقوقها المائيّة. لكن مع عدم تجاوب إثيوبيا مع المبادرات السابقة، يبدو أن هذا الخيار لن يثمر نتائج ملموسة على المدى القريب.

من جهةٍ أخرى، قد تضطر مصر إلى التكيف مع الواقع الجديد، وذلك من خلال تحسين كفاءة استخدام المياه، وتطوير البنية التحتيّة لإدارة الموارد المائية بشكل أكثر فعالية. وربّما قد تجد نفسها مضطرة إلى شراء المياه من إثيوبيا، وهو سيناريو لم يكن في الحسبان من قبل، لكنه يعكس التحوّلات العميقة التي يشهدها المشهد الإقليمي.

السيناريوهات المستقبلية

في ظلّ استمرار التوتّرات، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة:

أولًا، التوصّل إلى اتفاق شامل، حيث قد ينجح المجتمع الدولي في الضغط على الأطراف للتوصّل إلى تسويةٍ تضمن توزيعًا عادلاً لمياه النيل.

ثانيًا، استمرار النزاع، ما قد يؤدّي إلى تفاقم الأوضاع واستمرار حالة الاستنزاف السياسي والدبلوماسي بين الأطراف.

ثالثًا، مرحلة التكيّف والشراء، حيث قد تجد مصر نفسها مضطرة إلى التكيّف مع الوضع الجديد، بما في ذلك شراء المياه باعتبارها سلعة استراتيجيّة.

إنّ التحدّيات التي تواجه مصر في قضيّة سد النهضة لا تقتصر على المياه فحسب، بل تمتد لتشمل البعد السياسي والاستراتيجي. وهذه الأزمة تفرض على مصر البحث عن حلولٍ مُبتكرة، سواء من خلال تعزيز التعاون الإقليمي أو تحسين إدارة الموارد المائية. 

وفي نهاية المطاف، قد يتحوّل سد النهضة إلى اختبارٍ حقيقي لقدرة مصر على التكيّف مع المتغيرات الإقليمية، واستخلاص الفرص من قلب التحدّيات.