ستة عشر ولداً في غرفتين

05 مايو 2017
+ الخط -
رويتُ لكم في تدوينة سابقة حكاية صديقي القديم الذي اتصل بي ليستشيرني في قضية الفقر الذي كان ينصب حوله "دبكة" ولا يترُك له منفذاً يخرُج منه. وقد أبلغني، بكثير من المرح والانسجام، أنه يعيش مع أسرته المؤلفة من ثمانية أولاد (وأمّهم إلهام!) في منزل بحي المساكن الشعبية الجنوبية، يتألف من غرفتين وموزع، والسقف عنده واطىء، وزيادة في النكد والنكاية فهو ينشُّ بالماء في الشتاء، ولا يقيهم من الحر في الصيف. 

فاتني أن أقول لكم، إن هناك جانبين محببين في شخصية ذلك الصديق، أولهما، أنَّه ذو ثقافة أدبيَّة واجتماعيَّة لا بأس به، وثانيهما، أنَّه يسخر من نفسه إضافة إلى سخريته من فقره، وحَظّه الذي ينصحه أن "يُغَرّب" خلف الرزق حينما يكون الرزق "مُشَرِّقاً".

أبلغني ذلك الصديق، أنه، بعدما سمع بحكاية الركاب العشرين الذين يصعدون إلى السيارة ذات الخمسة مقاعد، ويتموضعون في داخلها بطريقة "كل إنسان يدبر نفسه"، أصبح يُسمي أفراد أسرته "الركاب"، ومن ضمنهم كنّته الجديدة التي انسجمت مع الوضع كما لو أنها من الركاب الأساسيين وليس العارضين.. وقد زاد انسجامها عن الحد المألوف حينما أخذت تلدُ ولداً أو توأمين كلما حال عليها الحول! 

وقال لي: إن الولد الذي يبلغ عمره حولاً واحداً يسمونه "الحايل". والحايل بدوره يتقمص شخصية والدته في مجال الانسجام مع الجو، فيحبو، وينسلُّ ساعياً في الفراغات المحدثة وسط الازدحام، تاركاً والدته ترعى أخاه الصغير ابن اليومين. ووالدتُه، بدورها، تتحين الفرص مع زوجها الشاب لاختلاس لقاء مدته خمس دقائق يؤدي إلى "التوصية" على ولد قادم!

تابع صديقي يقول: باختصار يا أستاذ، الآن، في هذه اللحظة التاريخية، وأنا أحكي معك، صار عدد أولاد ابني خمسة، وزوجته حامل، وصار مجموع أفراد الأسرة التي أعيلُها ست عشرة نسمة.

قلت: تقصد خمس عشرة نسمة، ولها معيلان إثنان، وليس واحداً.

قال مستغرباً: من هو المعيل الثاني؟

قلت: ابنك الذي تزوج وشرعت امرأتُهُ تلد بمعدل ولد واحد كل حول.

ضحك وقال: هذا هو بيت القصيد، كما تقولون أنتم الأدباء، ومربط الفرس، كما يقول مربو الخيل.

قلت: لو لم تكن لغتنا نحن الكتاب مهذبة أكثر من الحد المقبول لحلفتُ لك بالطلاق الإدلبي المثلث على أنني لم أفهم مما ترمي إليه كلمة واحدة.

قال: أنا أيش عندي شغلة؟ أفهمك. أخي، أستاذ خطيب، أرجوك اسمعني وركز معي، إن مديرية الزراعة، التي يديرها صديقُك الأستاذ محمد، فيها فرصة عمل بعقد عمل مؤقت لمدة خمسة وثمانين يوماً، وأنا الآن أحكي معك لكي تقف معي في مواجهة ظروف الدهر، وتهبَّ لنجدتي، فتتصلَ بصديقك الأستاذ محمد، وتطلبَ منه أن يعيِّنَ ابني الأكبر هذا بعقد مؤقت لمدة خمسة وثمانين يوماً، عساه براتب الأشهر الثلاثة الناقصة خمسة أيام هذه أن يسند معي، من مبدأ الحصاة التي تسند الجرة، أو يريحني من مصروفه ومصروف القسم الخاص به من عائلتي الجهنمية لمدة خمسة وثمانين يوماً، وبعدها يحلها الحلال.

وضعت يدي على ما أبقى الدهرُ من شعرات في رأسي، فقد أحسست بهن يرتفعن إلى الأعلى كشوك القنفذ، وقلت له:

- أفهم من هذا الكلام أن ابنك الأكبر حينما تزوج لم يكن يعمل؟

قال: أكذب عليك إذا قلت لك إنه اشتغل بما قيمته قرش سوري واحد من يوم أن تزوج، لا بل، من يوم أن خلقه الله! وكذلك أخوه الذي يطلب مني أن أزوجه هو الآخر.. أسوة بأخيه!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...