"رمضان".. من الأندلس إلى إسبانيا
تتوالى أيامُ رمضان المبارك وتنقضي لياليه الجميلة، ونحن نوّدع يوماً ونستقبل آخر. ومع كلِّ إشراقٍ وأصيلٍ، وغَدَاةٍ ورَوْحَةٍ، يعصف بنا الحنين، وتختلط بين جوانحنا المشاعرُ، فالشهر الكريم قد انتصف، والليالي تمر مسرعة، وقلوبنا ما زالت ظمأى، ورمضان كما يُقال: يأتي على مهل ويذهب في عَجَل.
تزامن وصول شهر رمضان المبارك مع قدوم فصل الربيع، فاجتمع جمال المكان وروحانية الزمان، حيث كلّ شيء في الوجود يكتسي ثوباً من الحُسْن والنور والسكينة والوقار.
هذه هي السنة الرابعة لي في إسبانيا، وهذا هو الموسم الرابع من الشهر الكريم الذي أقضيه في هذا البلد الجميل، البلد الذي يربطنا به تاريخ عظيم وحضارة خالدة. هنا، ولمدة تزيد على ثمانية قرون، عاش العرب والمسلمون وشيّدوا حضارة خالدة لا مثيل لها، ما زالت آثارها شاهدة على عظمة تلك الحضارة ورقيّها، حيث فتح المسلمون الأندلس في 28 رمضان 92 هـ، وصاموا رمضان هنا لثمانية قرون، وكأنهم في بلد عربي. هنا، كانت تُضاء القناديل في الطرقات، وتقام ولائم الإفطار للصائمين، وتعمر المساجد بالمصلين.. إلخ. وحتى بعد سقوط الأندلس، حافظ الموريسكيون على صيامه سرّاً لقرون، رغم التضييق والتنكيل اللذين تعرّضوا لهما من قبل الكنيسة.
أما اليوم، فمظاهر الاحتفال بالشهر الكريم في إسبانيا تختلف من مدينة لأخرى، ففي بعض المدن لا تكاد تُرى، وفي البعض الآخر تبدو واضحة للعيان، ورغم أنها تقتصر على القليل من الأنشطة إلا أنها مع بساطتها تعكس بصورة جميلة عمق الارتباط الروحي بين المجتمع المسلم وبين الشهر الفضيل وتبرز حرص الناس على استقبال الشهر الكريم واستعدادهم له على الرغم من مشاغلهم الكثيرة واهتماماتهم الخاصة.
الشهر الكريمُ قد انتصف، والليالي تمرُ مسرعة، وقلوبنا ما زالت ظمأى
يُقبل الناس على المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية بشكل متزايد، ويلاحظ ذلك في صلاة التراويح، حيث تمتلئ المساجد بالمصلين، وتقام في عدّة مدن حفلات الإفطار الجماعي لأفراد الجاليات العربية وبمشاركة من المواطنين الإسبان، خصوصاً في مدن وبلدات الأندلس، فرمضان مناسبة جميلة للتعريف بالثقافة الإسلامية وفرصة لتعميق أواصر التعاون بين هذه الجاليات والوسط الاجتماعي الإسباني بشكل عام.
ويلاحظ أيضاً بعض مظاهر الاحتفاء برمضان في المطاعم العربية الصغيرة المنتشرة في عواصم المقاطعات والمدن الإسبانية. فإِلى جانب كون هذه المطاعم باب رزق جميل لأصحابها، فهي أيضاً نوادٍ ومراكز ثقافية صغيرة، تعطي لروّادها صورة مُصغّرة عن العادات والتقاليد والمناسبات العربية وترسم في أذهانهم انطباعاً جميلاً عنها، فكل مطعم من هذه المطاعم أشبه ببيت عربي صغير لما يحويه من أثاث وأوان فخارية ولوحات فنية، ولما يقدّمه من أطباق شعبية تقليدية متنوعة.
في هذه المطاعم الصغيرة يمكنك تناول وجبة الإفطار، وكأنك في إحدى المدن العربية، حيث تبدأ بتناول حبات التمر المباركة مع اللبن، ثم تنتقل إلى بعض المقبّلات والعصائر والشوربة، وبعدها يتم تقديم الطبق الرئيسي مع الخبز، والذي يتكوّن عادة من طاجين اللحم والخضار، وهو طبق مغاربي شهير، ثم تنهي وجبتك بالحلويات المختلفة وكأس من الشاي الأخضر بالنعناع.
إذا مرَّ بك رمضان ولم تغيّر من نفسك نحو الأفضل، فأنت لم تذقْ رمضان ولم تستمتعْ بجماله وروحانيته
ومع ذلك، فرمضان في بلدان الشرق ومواطن النخل والزيتون والقهوة أجمل، فالأندلس أصبحت اليوم إسبانيا، ونحن فيها غرباء، حالنا فيها ينطبق عليه قول الشاعر:
فما القومُ بالقومِ الذين عهدتهم
ولا الدارُ بالدارِ التي كنتُ أعهدُ
مظاهر الاحتفاء بالشهر الكريم، وإن كانت جميلة تعكس خصوصية الشهر الكريم وتأثيره الكبير في حياة الناس وما أنتجه ذلك التأثير من فن وأدب وعادات وتقاليدَ ينبغي ألّا تذهب بنا بعيداً عن الحكمة من فرض الصيام ومقصد الشريعة منه، فرمضان ليس مهرجاناً للطبخ والنفخ، وليس رياضة لتنقيص الوزن كما يظن البعض، وليس مجرّد امتناع عن الطعام والشراب كما يظن البعض الآخر، فإذا مرَّ بك رمضان ولم تغيّر من نفسك نحو الأفضل، فأنت لم تذقْ رمضان ولم تستمتعْ بجماله وروحانيته.
لنستحضر كلّ المعاني الجميلة لرمضان والقيم الروحية العظيمة للصيام، وليكن رمضان هذا العام نقطة التحوّل في حياتنا، فلن نجد أجمل منه مناسبة وأعظم فرصة للتغيير نحو الأفضل، فهو موسم عبادة عظيم، وفرصة للانتصار على الذات، ولتربية النفس وتهذيبها، والرقي بها في كلّ مناحي الحياة.