رفوفنا المحتلة
لم أكنْ أتوقّع أنْ أحصل عليه بهذه السرعة. فتمنياتُنا في هذه المنطقة المعوقة عن النمو بفعلِ فاعلٍ، عادةً ما تبقى في إطارِ الأحلام. لكن.. يا للفرحة. ها هو تطبيق المقاطعة الاقتصادية الذي لطالما تمنّيت وجوده متاح في مخزن "غوغل بلاي".
هل هذا معقول؟ فعلى حدِّ علمي حاولت "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل" المحليّة، تسويق ونشر تطبيق مماثل كان اسمه "قاطعوا". لكن منصة غوغل ألغته من مخزنها بعد فترةٍ قصيرةٍ من نشره في العام 2016، من دون أن تردَّ، حتى على رسالة الحركة التي راسلتها لمعرفةِ الأسباب، وهي معروفة طبعاً.
فغوغل التي لا نستطيع بعد مقاطعتها أو استبدالها، كونها هي بنفسها داعمة للكيان الإسرائيلي، كيف من الممكن أن تسمح بتلك الخطوةِ شديدةِ الأهمية اليوم، خصوصاً بعد نجاح حركة المقاطعة بتكبيدِ شركاتٍ كبرى داعمة لإسرائيل خسائر فادحة، دعتها لسحب استثماراتها من الكيان العبري؟
بقيت متشكّكة، لكنه هنا! أفتحُ المخزن وأقوم بتنزيلِ التطبيق بسرعةٍ، كما لو كنت أخاف أن يختفي فجأة من أمامي كما حصل لتطبيق "قاطعوا" سابقاً.
اسم التطبيق "No Thanks"، ولقد عرفت به من فيديو لمراهق أميركي، ناشط من أجل غزّة، كان يدعو إلى دعمِ هذا التطبيق عبر تنزيله وتقييمه بنجومٍ خمس، كيلا تستطيع غوغل أن تلغيه.
كيف يعمل التطبيق؟ ببساطة هو يتيح، وفوراً، عبر مسح الباركود لأيّ بضاعة أو سلعة ينوي شراءها، التأكّد إنْ كانت هذه السلعة من إنتاج جهةٍ داعمة لإسرائيل أو مستثمرة فيها، وبالتالي يستطيع أن يتخذ قراره بالمقاطعة والامتناع عن الشراء.
اتصلتُ ببعضِ الأصدقاء المناضلين في حركةِ المقاطعة لأعرف أكثر عن التطبيق الذي انطلق العمل به في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، فأحالوني إلى التطبيق نفسه.
هكذا قرأتُ في باب "من نحن"، أنّ مصمّمه، ولفرحتي العارمة، فلسطيني، اسمه أحمد بشبش، وقد قرّر أن يصمّم هذا التطبيق سهل الاستعمال لمساعدة حركة المقاطعة BDS، "لأنّي بنفسي أعاني وعانيت من الاحتلال"، ويضيف: "فقد فقدت أختي في العام 2020 بعد معاناتها من مرض استلزم عناية طبية في مستشفى في القدس، لكننا لم نستطع لشهر كامل الاستحصال على إذن من السلطات (الإسرائيلية)، وحين نجحنا أخيراً، تُوفيت داخل سيارة الإسعاف خلال نقلها قبل بلوغ المستشفى".
ثمّة مأزق استهلاكي في موضوع المقاطعة، لغياب البدائل "الصديقة" بشكل كامل أحياناً، والاضطرار لشراء سلع داعمة للكيان الصهيوني
ويتابع بشبش أنّ محنته لم تنته هنا، فهو فقدَ أيضاً أخاً له في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بقصفٍ للطيران الإسرائيلي (الأرجح على غزّة لكنه لا يحدّد)، لذا قرّر أن يُنهي تصميم التطبيق بسرعة، وأن يجعله مجانياً بالكامل، واعداً بالتبرّع "بأي مبلغ مالي قد أحصل عليه من هذا التطبيق، كاملاً، للمنظمات الفلسطينية التي تُعنى وتساعد أهالي غزّة".
أبحث قليلاً على الإنترنت عن صاحب التطبيق، فلا أجد لدهشتي إلّا مرجعاً يتيماً، يذكر هو نقلاً عن مقابلة معه على موقع "دويتشه فيله" الألماني. ويشير محرّر المقابلة إلى أنّ الشاب الغزاوي يعيش حالياً في المجر، وأنّ تطبيقه تعرّض لحظرٍ سابق من غوغل، لكنه أعيد إلى الاستخدام في ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي، بعد تغيير توصيفه، أو بالأحرى تغيير جملة كانت تقول: "يمكنك معرفة ما إذا كان المنتج الذي بين يديك يدعم قتل الأطفال في فلسطين"، إلى توصيفٍ آخر يقول: "يعمل تطبيقنا على تبسيط عملية مسح الرموز الشريطية (الباركود) والبحث عن المنتجات المدرجة في حركة المقاطعة".
حسناً قلت لنفسي، بما أنّي تمنيته فحصلت عليه، فلنجربه. هكذا، قصدتُ السوبر ماركت الضخم بالقرب من بيتي، وطفقت أطوفُ بين الرفوف المتنوّعة، متفحصةً "الباركود" لكلّ ما قد أرغب بشرائه عن تلك الرفوف بواسطة التطبيق الجديد. ويا للهول! ما هذا؟
إحساس عميق بالخديعة، لا بل بالفضيحة انتابني وأنا أراقب الضوء الأحمر- علامة الإدانة- يشع بعد كلِّ تفحّص لمنتجٍ، متوهّجاً بكلمتي "No Thanks" (لا شكرا) علامة على كونه داعما للكيان الصهيوني. بينما الضوء الأخضر علامة البراءة من الدعم، وبالتالي من دمِ الفلسطينيين، كان يشع لمرّات أقلّ بكثير.
هذا احتلال آخر!
السوبر ماركت "محتل" ببضائع، أغلبها يتعاطى بهذا القدر أو ذاك، يدعم بهذا القدر أو ذاك، يستثمر بهذا القدر أو ذاك، في الكيان الصهيوني، مرتكب المجازر.
لم لا ندعم إخوتنا الفلسطينيين، على الأقل، باستخدام استهلاكنا كسلاح، ندافع فيه عنهم، وعن أنفسنا أيضاً؟
ومع أنّني كنت سابقاً قد قاطعتُ غالبية الشركات المعروفة بدعمها للكيان أو استثمارها فيه، كالعلامات التجارية نستله وبيبسي ومسحوق الغسيل آرييل إلخ، وبالطبع ستاربكس وماكدونالدز وبرغر كينغ وعلامات تجارية أخرى في عالم التكنولوجيا مثل أنتل وآبل وسامسونغ، إلّا أنّ عددَ السلع التي "تحتل" حرفياً رفوف استهلاكنا اليوم كان غير معقول! ما هذه الاستباحة؟ ما هذا الجهل الاستهلاكي؟ أكنا نموّل قتلنا من جيوبنا؟
عدتُ إلى المنزل وفتحت خزائن المطبخ، لكنّي لم أنج. بعضُ المعلّبات التايلاندية توهّجت بالأحمر وعلب الشاي والقهوة، بعضها إنكليزي، وأخرى بعلامةِ مخازن "كارفور" الفرنسية العملاقة. لكن يبدو أنّي نجحت إلى حدٍّ ما بما يخصّ السلع الأخرى كالعطور ومواد العناية بالبشرة والتجميل والملابس، وبالطبع التكنولوجيا التي لم أكتف بمقاطعةِ الأميركية منها، بل قمت نكاية بالاستعاضة عنها بالصينية، مع العلم أنّ بعض بضائع هذه الأخيرة قد يكون مطبّعاً أيضاً.
أعلم أنّ هناك مأزقاً استهلاكياً في موضوع المقاطعة، لغياب البدائل "الصديقة" بشكلٍ كاملٍ أحياناً والاضطرار لشراءِ سلعٍ داعمةٍ للكيان. فبلادنا، وأخصّ بالذكر لبنان، تحوّلت بشكلٍ يكاد يكون كاملاً إلى بلدان مستهلكة، مجرّد أسواق، لا تنتج محلياً أيّ شيء مهم تقريباً.
لكن، وبما أنّنا لن نتحوّل بين ليلةٍ وضحاها إلى بلدانٍ مكتفية بالإنتاج المحلّي، وبما أنّنا في خضمِ معركة تخوضها غزّة بالدم والروح، فلم لا ندعم إخوتنا الفلسطينيين، على الأقل، باستخدام استهلاكنا كسلاح، ندافع فيه عنهم، وعن أنفسنا أيضاً؟
لذا خذوا هواتفكم بعد تحميلِ التطبيقِ الفلسطيني عليها قبل خروجكم للتسوّق، فبهذا المعنى، قد يصبح لتسمية تلك الهواتف بالذكية، مغزى حقيقي.