دروسٌ ريميةٌ
في يومٍ من أيام العطلة، ذهبت مع إبني ريمي (سبع سنواتٍ) إلى مدينة ألعابٍ صغيرةٍ تمّ افتتاحها قرب حيّنا. وقد لعبت معه أكثر من لعبةٍ، ومن بينها لعبة الفيشة.
في الجولة الأولى، كنت أقول لنفسي إنه ينبغي لي أن أسمح لريمي بتسجيل بعض الأهداف عليّ، نظرًا إلى فارق العمر والإمكانات والخبرة والمهارات بيني وبينه. وزاد إحساسي بضرورة التواضع وعدم استخدام كلّ إمكاناتي ومهاراتي عندما انضم طفل أوكراني إلى ريمي في اللعب ضدي. وقد فلتت الأمور من يدي قليلًا، بحيث إنّ المباراة انتهت بفوز ريمي ورفيقه عليّ بثمانية أهداف مقابل ستة.
أحسست ببعض الحرج، بعدما سمعت وشاهدت ضحكات الشماتة من الطفلين المغرورين. فأردت أن ألقنهما درساً في التواضع والابتعاد عن الغرور، فدخلت الجولة الثانية بكامل قواي، وقرّرت إظهار مهاراتي المكبوتة، وتحويلها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، لكن الصاعقة أنّ نتيجة الجولة الثانية كانت ثمانية أهدافٍ مقابل خمسةٍ، أي أسوأ من نتيجة الجولة الأولى. وطبعًا، كانت قهقهات ريمي ورفيقه تتناسب طرداً مع حجم الفارق في النتيجة، ومع مدى ظهور الحسرة والصدمة على ملامحي.
فعل الإنجاز فعلٌ إبداعيٌّ، وهو ليس مجرّد تحقيقٍ لممكناتٍ موجودةٍ مسبقًا، بل هو، أيضًا، خلقٌ لممكناتٍ أخرى، قد تسمح للممكنات الأولى بالتحقق، أو قد ترجح تحقّق ممكناتٍ أخرى متعارضةً معها
تذكرت حينها تمييز أرسطو بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل، أو بين ما هو ممكن الوجود وما هو موجودٌ فعلًا. يُظن أحيانًا أن الوجود بالقوة معادلٌ، تقريبًا، للوجود بالفعل، فنتحدث، على سبيل المثال، عن شخصٍ موهوبٍ أو لديه موهبةٌ، ونرى أنه قادرٌ، من حيث المبدأ أو بالتأكيد، على إبداع عملٍ أدبيٍّ أو فكريٍّ إلخ، ولا ندرك الفرق الكبير بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل، وأنّ الوجود الأوّل قد يكون ويبقى، في كثيرٍ من الأحيان، أقرب إلى العدم من قربه من الوجود بالفعل، وأنّ العمل على تحقيق تلك النقلة قد يبيّن قصور ذلك الإمكان عن التحقّق الفعلي، لأسبابٍ كثيرةٍ من بينها أنه لا يحمل كلّ المقومات الضرورية للتحقّق الفعلي. وعلى هذا الأساس، ينبغي، في هذا السياق، أخذ المنطق البراغماتي أو العملي في الحسبان، وأن "لا نقول عنب حتى يصبح بالسلة". فبدون فعل الإنجاز، لا قيمة فعليةً أو أكيدةً لهذه الممكنات أو الموجودات بالقوة.
الوجود بالقوة، أو وجود ممكناتٍ ما، وجودٌ ناقصٌ وعدم وجودٍ فعليٍّ؛ وهو يترافق غالبًا مع وجود ممكناتٍ أخرى قد تناقضه وتكون أكثر قابليةٍ للتحقّق منه. ولعلّ قصة السباق الشهير بين الأرنب والسلحفاة تبيّن تنوّع الممكنات من جهةٍ، وتحقّق إحداها على حساب ما يبدو أنه أكثر قابليةً للتحقّق، من جهةٍ أخرى.
فعل الإنجاز فعلٌ إبداعيٌّ، وهو ليس مجرّد تحقيقٍ لممكناتٍ موجودةٍ مسبقًا، بل هو، أيضًا، خلقٌ لممكناتٍ أخرى، قد تسمح للممكنات الأولى بالتحقق، أو قد ترجح تحقّق ممكناتٍ أخرى متعارضةً معها. فالممكنات أو الموجودات بالقوة كثيرةٌ ومتنوعةٌ، وقد بيَّن أرسطو أنّ تلك القوة قد تكون قوةً قريبةً، وقد تكون قوةً بعيدةً، بحيث أنّ الأولى لا تحتاج إلى "الكثير" لتصبح وجودًا بالفعل، في حين أنّ الثانية تحتاج إلى تهيئةٍ وإعدادٍ مطوّلين نسبيًّا، قبل أن تصبح وجودًا بالفعل.
في كلّ تعليمٍ، ليس نادرًا أن يتعلم المعلِّم من تعليمه، وممن يعلمهم، بقدر ما يتعلمه هؤلاء المتعلمون، وربما أكثر أيضًا
ينبغي الابتعاد عن ذهنية التأريخ الجازمة في تعاملنا مع ما يمكن أن يفعله البشر أو يحصل لهم في المستقبل. ففي فهمنا للحاضر في علاقته بالماضي، نميل أحيانًا إلى الاعتقاد بأنّ ذلك الحاضر كان نتيجةً حتميةً أو ضروريةً للماضي، ويستغل بعض من توّقع حصول ذلك النتيجة المتحقّقة إلى التفاخر وتعيير أو لوم الآخرين بالقول "ألم أقل لكم؟". وينسى أو يتناسى هؤلاء وغيرهم أنّ التاريخ الإنساني ليس تاريخ حتمياتٍ وضروراتٍ (فقط)، وإنما هو (دائمًا) تاريخٌ لما هو عرضيٌّ وجازٌ ومحتملٌ (أيضًا)؛ وأنّ ما يُظن أنه نقطة البداية في أيّ تسلسلٍ تاريخيٍّ زمنيٍّ، أو سلسلةٍ سببيةٍ، مزعومةٍ أو فعليةٍ، لا يحدّد، بالضرورة، كلّ أحداث تلك السلسلة، وأنّ ثمّة أحداثا تبدو، لوهلةٍ أو أكثر، ضئيلة الحجم وعديمة القيمة (التأثيرية)، لكنها تُسهم في إحداث تغييراتٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ في مجريات ذلك التسلسل وتلك السلسلة.
إذا كانت نظرية جناح الفراشة مستخدمة في نظرية الفيزياء الفلكية ونظرية النظم الديناميكية العاصفة، لإظهار إمكانية أن يسهم اندفاع جناح فراشة في البرازيل، في إحداث عاصفةٍ في تكساس، فإنّ تطبيق تلك النظرية في ميدان فهم ممكنات البشر وأفعالهم يبدو أكثر معقوليةً ومنطقيةً. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم كيف أمكن لخسارة مباراة فيشة مع ريمي ورفيقه، إثارة فكري وتنبيهي لضرورة مراجعة الكثير من الأفكار والانطباعات والأحكام التي أملكها، عن ذاتي وعن غيري أيضًا.
تعليم الطفل جزءٌ ملازمٌ لعملية تربيته. وكما هي الحال في كلّ تعليمٍ، ليس نادرًا أن يتعلم المعلِّم من تعليمه، وممن يعلمهم، بقدر ما يتعلمه هؤلاء المتعلمون، وربما أكثر أيضًا.