خمس نقاط حول فلسطين
تختلف العيون التي تُبصر الحدث الأهم على الساحة الفلسطينية، فبين من يغرق في دموع الوجع، وبين من يجلس على التل منتظراً النتائج ليهبط ويجني الثمار، وثالث لا يبالي بما يحصل لاختلاف أولوياته، وبين من لا يراه إلا في نطاق لحظته، وآخر يبصره وقد ترك تأثيره لعقدٍ قادمٍ من الزمان.
وبين هذا الطرف أو ذاك، يبدو من الضروري القول إن ما يحصل يستدعي التأمل والمعاينة والتحليل والتوقف عند أهم النقاط التي يثيرها الحدث ويلفت الانتباه إليها، وهذا ما سنحاوله في هذه المادة.
صحيح أنّ ساحات فلسطين الملتهبة تقدّم درساً بليغاً لا يدانيه أيّ درس آخر بارد في حروفه، ولكن تبقى قراءة الأحداث، وخلاصاتها، وما ورائياتها، ضرورية في تقييم ما يحصل، وستبقى فلسطين معلّمة الأمة جمعاء.
أولاً، ليست كلّ القضايا حساباتها عقلية ومنطقية، وقد علّمنا القرآن الكريم عبر آياته الكريمة أنّ مواجهة الحق والباطل لها معايير مغايرة، تختلف عن حسابات القوة والضعف الدنيوية، وقد لا تنتهي إلى نصرٍ أو حسمٍ تام وعاجل، بل قد تكون المواجهة طويلة الأمد، وقياس النتائج على الحضور والغياب فيه قصور، فبعض الموت حياة، وذلك حال الشهداء في سبيل الله.
ثانياً، العاطفة والفعل الاستراتيجي، فكم هي نسبة الركون إلى العاطفة لدى القائد الاستراتيجي، وكيف يوازن بين استدعائها وتوظيفها وتأثيرها، وهذا أمر بالغ الخطورة والأهمية على حدٍ سواء، عند الولوج إلى أيّ خيار، كما أنّ استحضار تاريخ القضية بالغ الأثر في قراءة المواقف وتحوّلاتها وأسبابها، فالتماس يد الإسناد ينبغي أن يكون مشوباً بالحذر دوماً كي لا يقع المرء في فخ التحوّل إلى يد استخدام!
تبقى قراءة الأحداث، وخلاصاتها، وما ورائياتها، ضرورية في تقييم ما يحصل، وستبقى فلسطين معلّمة الأمة جمعاء
ثالثاً: الهدف وثمن التحقيق: كثير من الأهداف تكون أثمانها باهظة، وتكاليفها مرتفعة، ولكن يُصبر عليها إزاء الغاية الأسمى، ودراسة الجدوى على العموم هي التي توجد القناعة بهذا الخيار أو ذاك. ولعلّ المواجهة الجارية اليوم في فلسطين المحتلة أثبتت أنّ الثمن المدفوع اليوم على شدّته يستحق، إزاء استرجاع الذاكرة المقاومة، وبعث قضية الحق الفلسطيني من جديد، وتشييد أسوار الأقصى الحامية بعد تكرار الاستباحات، وإيقاف قطارات التطبيع الآثمة، وتثبيت مواقع الكيان الغاصب والغرب المنحاز بعد اختلال الموازين.
رابعاً، تحوّلات وعلامات: إنّ المنحنيات الكبرى والمتغيّرات العظمى، وإعادة رسم الخرائط، لا بدّ لها من إرهاصات وعلامات وتدرجات، والتاريخ يعلمنا أنّ درسه لا يكمن في ظواهر الأحداث، ومن يريد العثور عليه والاستماع إلى صوته الحكيم، لا بدّ له من الغوص بعيداً في الجذور والجوهر دون نسيان المآلات... وإنّي أنظر اليوم إلى ما يحصل على أنّه مفترق طرق بليغ في تاريخ الأمة عامة، وفلسطين خاصة، وسيكون له ما بعده، وما بعده شديد وعميق!
خامساً، الحركة الإسلامية بين الهمّ القُطري والقضية المركزية: انتشرت منذ عقود سياسة الانكفاء على الهمّ القُطري بسبب سوء الحال، وتضييق مسارات العمل، وسُمِع دوماً من هذا الطرف أو ذاك، تعاطفه مع بقية القضايا مشوباً باعتذار لعدم إمكانية التأييد والإسناد على حساب قضيته الخاصة، بل وأُبيحت الاجتهادات التي تؤخذ على الآخرين من ذات الجهة بذريعة الاضطرار، بينما القاعدة واحدة، ومنهجياً علينا قياس كافة الملفات وفقها، وهو ما يثير قضية مركزية القضايا، فهل ذلك مرتبط بالمقدّسات أو شدّة تعقيد الملف ذاته، أو شكل الخصم أو التضحيات؟ وإذا كان أهل مكة أدرى بشعابها، فلماذا يتم تمييز الأهل ومكة والشعاب؟
والذي أعتقده جازماً أنّ مركزية القضية يجب أن تحسب وفق معايير الأهمية ومديات التردّدات وعظيم المكانة ومستويات التأثير على المستقبل العام، وفي ضوء ذلك، وإن طبّقنا هذا المنحى، سوف نجد أنّ مرتبة العراق لا تقل أهمية عن مرتبة فلسطين، والكلّ في حسابات التاريخ والبعد الاستراتيجي وانعكاساته سواء!
إنّ ما تشهده غزة اليوم يجب أن يكون مفتاحاً لفقه جديد، وفكر مغاير يؤسّس لمرحلة جديدة تتضمن تأكيد القواعد التي أثبتت فاعليتها، وبلورة المسارات التي اتضحت صورتها، وإعادة النظر بالمفاهيم التي جرى تسويقها وبان عدم صوابيتها، وتحديث التصوّرات التي علاها غبار الإهمال والنسيان... والكل مدعو للمساهمة في ذلك.