حين قررت الرسم خارج المنزل

11 فبراير 2021
+ الخط -

أتذكر أني حين كنت في الفصل الأول في الجامعة قررت أن أخرج وأرسم في محطة شبه مهجورة من محطات الطرام، يمر بها ولا ينزل أحد أو ينزل شخص أو اثنان.. كنت أرتدي ثيابي السوداء، معطفي الرمادي الذي تمنعني أمي حالياً من ارتدائه، والحصة المقررة ستكون الساعة الواحدة زوالاً، لذلك خرجت الساعة التاسعة وركبت الطرام..

نزلت في محطتي المفضلة "ساحة الجولان" وتمشيت متبعة سكة الطرام مجتازة محطة "محطة القطار محمد الخامس الرباط" ومحطة "باب الرواح" وحين وصلت إلى المكتبة الوطنية جلست على مقاعد المحطة وأخرجت الورقة التي كنت أرسم فيها طول الأسبوع الأخير وقلم حبر أسود وعدت أكملت الرسم.

من الصعب وصف ما كنت أقوم به بشكل دقيق، لكني كنت أخط رموزاً صغيرة ودقيقة دون أن أفكر بها، وكلما كانت أصغر وأقرب من بعضها أشعر بنفسي هادئة سالمة، وكلما ابتعدت وتنافرت كنت أشعر بأني غاضبة ومشوشة، كانت يدي تتحرك كما لو أنها تمتلك عقلاً خاصاً بها دون أن أتحكم بها أو أحاول السيطرة على حركتها، كنت فقط أراقب حركتها السريعة كما لو كانت نملة تحاول حمل ذرة سكر، وأقرأ في كل مرة حرف "A" الذي ترسمه عروقي على ظهرها -يدي- كنت أشعر بأني أنغمس شيئاً فشيئاً داخل عالمي، عالم هادئ وبسيط حيث تتحول أصوات نقيق الضفادع إلى موسيقى رومانسية حالمة، ولوهلة شعرت بأني سعيدة!

ثم سألني كأن ما قاله شيء عادي إن كنت تطوانية.. أتساءل لم يظنني الكثير من تلك المدينة؟

لذلك حين سمعت صوتاً خلفي يقول "تبارك الله عليك" شعرت بألم في صدري كما لو أن خنجراً غرس فيه فجأة، فتلك العبارة لابد أن يتلوها حوار طويل أو قصير أو متوسط مع رجل -إذ كان صوت رجل- عجوز أو شاب لا أريد الدخول فيه إطلاقاً. تبخر عالمي إذن، نظرت إليه وقلت "شكراً"، لنخوض حواراً طويلاً -رغماً عني- يتحدث فيه عن نفسه وعمله وعن موهبته في الرسم التي اختصرها في فترات فراغه وهو في مكتبه..

كان هذا الجزء من الحديث هو الجزء الجيد فقط، فما تبقى منه هو محاولته الحصول على رقم هاتفي الذي لم أكن أملكه بحجة أننا شركاء في الموهبة، ولم ينس التلميح -إن كانت جملته الصريحة تلميحاً- إلى احتمال وقوعنا في الحب: على الرغم من أني أبدو كبيراً، لكن هذا لا يمنع حصول علاقة بيننا.

ثم سألني كأن ما قاله شيء عادي إن كنت تطوانية.. أتساءل لم يظنني الكثير من تلك المدينة؟

من عادتي أن أحمل معي أكثر الرسوم قرباً لنفسي حين أتجول، لأحاول فهمها أكثر في فترات جلوسي، ولأنها تشعرني بأني أتجول مع صديق، لذلك حين طلب مني واحدة اخترت أكثرها بعداً مني ومنحته إياها، ولأنه لم يوفق لشيء لم يغادر قبل أن يكتب رقم هاتفه على خلفية الورقة التي أرسم فيها. بعد مغادرته عدت إلى الرسم، لكن هدوئي وعالمي السحري الصغير الهانئ والهادئ اختفى ولم يظهر مجدداً رغم كل محاولاتي لاستعادة هدوئي. صارت الرموز فظة وقاسية، وحركة يدي غاضبة ونزقة، والفراغ بين الرموز أكبر، وامتلأت المساحة الباقية بسرعة.

اقترب موعد الحصة فذهبت إلى الكلية، كنت ساخطة ومنزعجة لأني فقدت كل الجمال الذي تراه "مو" في فيلم "The.Scent.Of.Green.Papaya" لذلك حين رأيت أول شخص أعرفه هناك، وكان هو خالد قصدته وأعطيته الورقة وقصدت حصتي، كنت سأعطيها لأي كان لمجرد أن أتخلص منها ومن الرقم الملتصق بها والشعور بالاختناق الجاثم على صدري والجملة التي تتكرر في ذهني "على الرغم من فارق السن بيننا لا مانع من أن تقوم بيننا علاقة" ومن يومها لم أعد إلى الرسم في مكان سوى المنزل.