أحداث مزعجة من المدرسة الابتدائية
حين كنت في الصف السادس بالمدرسة الابتدائية "حي الانبعاث 3" -لا أزال أتعجب من اسمها- كنت أدرس اللغة الفرنسية والرياضيات عند أستاذة اسمها "زكية" والمعلومة الأولى التي تتبادر إلي عنها أنها كانت تكره المدير، لأنه كما بدا لي حينها انقسمت المدرسة بين ثلاثة فرق غير متكافئة؛ الأول يعادي المدير ويكرهه ويضم أغلب الأستاذات والحارس كما اكتشفنا في آخر السنة، والفريق الثاني محايد ويضم الأساتذة الرجال وأستاذة واحدة أو اثنتين، أما الفريق الأخير فهو المدير ومن لم يطرده من منصبه بسبب المظاهرة التي جرت في المدرسة والتي كانت تنادي بالنضال ضد المدير. صادف أن أمي وثقت بي وأرسلتني إلى بائع الأزرار والخيوط الذي يقع بعيداً عن المدرسة بعدة أمتار في يوم إضراب لأسمع هتافات من داخل المدرسة " ناضل! ناضل! ضد المدير ناضل!" لأطل بعيني من ثقب الباب فأرى مظاهرة كاملة بلافتاتها وشعاراتها المكتوبة بحروف حمراء كبيرة على مستطيل من القماش، وآلات تصويرها التي تنقل الأحداث -لا أدري من سيشاهد نقلاً مباشراً لمظاهرة ضد مدير مدرسة ابتدائية، فحتى الآن، ومع كل الأخبار التافهة، مازلت أشك في أن الأمر انحدر بنا إلى تلك الدرجة- وهتافات الحشد الصغير.
استطعت أن ألمح المدير واقفاً يراقب بهدوء كأن الأمر لا يعنيه. ولكل هذا لم أتعجب حين استنتجت لاحقا -ولم يحتج الأمر جهدا كبيرا في الواقع- أن "زكية" تكرهني لأن المدير صديق لوالدي.
في البداية بدا لي عادياً أن تصرخ في وجهي وتسخر مني لأني تأخرت حين بعثت معي ورقة أسلمها إلى المدير لأنه سأل عن أحوال والدي، لكني لا أفهم السبب الذي جعلها تسألني حين حصلت على علامة ممتازة في الامتحان المحلي للدورة الأولى "عجباً! أنزل عليك الوحي؟" وتضحك مستهزئة مع أستاذة أخرى، تلك الأستاذة كانت والدة تلميذ يدرس معنا، وقد كان يجيد التصرف أفضل من أمه، فهو كان يلعب معنا كلما غادرت والدته لتحدث الأستاذات الأخريات لساعة أو نصف ساعة إن قل الحديث.
كانت وسام غاضبة جداً وتجيب عن الأسئلة التي تسمعها وتصرخ " أرأيت؟ إجابتي صحيحة تماماً" وقد كانت محقة، كل إجاباتها كانت صحيحة غير أن الأستاذة لم تسمعها
في تلك المدرسة كان أغلبية الكادر التعليمي نساء، وطوال السنوات الست درست عند ثلاثة أساتذة فقط، ولم يكن ذاك لطيفاً فالأستاذات شرسات، أو هذا ما بدا لي حين كنت أصغر وأقصر وأكثر عرضة للتخويف.
"زكية" لم تكن طويلة، بل كانت بيضاء شاحبة قصيرة ترتدي الأبيض غالباً فتزداد بياضاً وشحوباً، نظرتها ثاقبة وضيقة في آن، وأنفها رقيق وطويل، وإن كنت سأُسأل عن عمرها فسأقول إن بشرتها مجعدة كما لو أنها ورقة جعدت وسرحت أكثر من مرة. أتذكر أنها كانت غاضبة ذات يوم لأن ليلى لم تعرف الإجابة عن سؤال رياضي، وقد كان سهلاً، أو أن الجميع كان يعرف الإجابة، لذلك انتقلت إلى تلميذ آخر أجاب بسهولة، وانتقلنا إلى السؤال التالي الذي كان سهلاً أيضاً والكل يعرف إجابته عداي وعدا ليلى.
القاعدة الثابتة في المدارس والكتاتيب وكل مكان يطلب فيه العلم هي أن من يعرف الإجابة يرفع يده، وكان الجميع رافعاً يده وواقفاً متحمساً لأن المتميز سيحصل على علامة إضافية كما ذكرت "زكية" يومها، لكني كنت صامتة وجالسة في مكاني أشابك يدي بقوة، فلم نادت علي؟
ليلى كانت تجلس بجواري في حصة الفرنسية والرياضيات، كان مكانها خالياً لأن الأستاذة أجبرتها على الوقوف أمام الجميع حتى بعد حصولها على الجواب وسؤالها لها: ألم تعرفي هذه الإجابة البسيطة؟
ثم نظرت إلي وطلبت الإجابة.
كنت حزينة لأن ليلى تبكي ولا تستطيع السيطرة على نفسها أمامهم، من هم؟ الأطفال الذين سيستخدمون هذه الحادثة ليسخروا منا لاحقاً. أتذكر يومها أني كرهت كوني قصيرة لمجرد أنهم يجعلون القصار يجلسون في الطاولة الأولى، الشيء الذي ميز ليلى عني هو أنها لم تر نظرة الشفقة في عيون عمران -كنت معجبة بهدوئه- ووسام وسلمى -الصديقتان الأقرب لي حينها- وهل أكذب؟ لقد كنت أرى نظرة استهزاء في عيون فاطمة الزهراء ونجوى الفتاتين صاحبتي الشعبية الكبيرة في الصف.
ما حصل بعدها كان صعبا وبطيئا، لكني سألخصه؛ فقد وقفت حيث وقفت ليلى وخاطبتني الأستاذة زكية بنفس اللهجة القاسية التي أجزم بأني لو كنت أعرف الجواب لنسيته بسببها، وانتظرتْ عدة دقائق كي تحصل على جواب ولم تحصل عليه، ثم نادت نجوى واتخذت قرارها: خذيهما إلى الأستاذة حورية، سنعيدهما إلى الفصل الرابع كي تتعلما مجدداً ما لم تتعلماه.
والتفتت إلينا وأمرتنا بجمع أغراضنا. ليلى كانت تبكي بشدة وتترجى "زكية" لتعفو عنها هذه المرة، وأنا كنت أكافح كي لا أبكي أمامهم. خرجنا من الفصل، أخذتنا نجوى إلى الأستاذة حورية -لا أستطيع تذكرها دون أن أسمع صوت طرطقة العلكة في فمها- وفي الرواق بدأتُ أبكي، كرهت نفسي لأني بكيت أمام نجوى، حاولت أن أبرر لها " أنا أبكي لأني لا أريد أن أضيع سنتين من حياتي" فقالت " إنها تخيفكما فقط".
لا أتذكر ما حصل خلال ما تبقى من اليوم، لكني أذكر أننا حين عدنا في اليوم التالي إلى فصلنا أمرتنا "زكية" بالجلوس في "مقاعد الكسالى" أجل، لقد كان هناك مقاعد للكسالى. إنها طريقة تعليمية قديمة انتهجتها الأستاذات في مدرسة "حي الانبعاث 3" والتي -المقاعد- دائماً ما كانت تقع في الجانب البعيد عن مكتب الأستاذات، فآخر ما يردنه هو أن يرين وجهاً كسولاً أمامهن مباشرة.
هناك كان يجلس المنبوذون دائماً دون محاولة من الأساتذة للاهتمام بهم -بما أن حالتهم خاصة مما استدعى ذاك الإجراء- أو حتى الالتفات إليهم خلال الشرح. وهناك جلست في الطاولة الأولى، مجدداً لأني قصيرة وبجوار ليلى.
أتذكر أن "زكية" أخرجتنا من القسم ذات يوم قائلة: هناك قسم فارغ بجانبنا، فليخرج الكسالى ويبقوا هناك حتى أنهي شرح الدرس، فأنتم لن تفهموا على أي حال.
وخرجنا.
كانت وسام غاضبة جدا وتجيب عن الأسئلة التي تسمعها وتصرخ " أرأيت؟ إجابتي صحيحة تماما" وقد كانت محقة، كل إجاباتها كانت صحيحة غير أن الأستاذة لم تسمعها.
كانوا ينادونها "الحاجة زكية" لأنها ذهبت إلى الحج، استطاعت وسام أن تقول يوماً "يجب أن تعود إلى الحج كي يغفر لها ما تفعل بنا" وقد كانت هذه شجاعة منها لأن بعض الفتيات كن ينلن الحظوة عند "الأستاذة زكية" بوشاياتهن المتكررة بالآخرين. هل كنا أمام مُدَرّسَة أم خليفة؟
والآن، بعد ما يقارب العشر سنوات من تلك السنة العنيدة، أتساءل؛ لماذا كانت المشاكل بين المدير والأساتذة تؤثر علينا كما لو كنا أبناء أزواج مقبلين على الطلاق؟ ولماذا كانت الإهانة والنبذ أكثر الطرق المفضلة للتعليم؟ ولماذا لم تكتف بضربنا وإرسالنا إلى مقاعدنا كما العادة؟ ولماذا كان علي أن أسمع عمران يهمس لي "ليلى المسكينة!" قبل أن يحين دوري لأكون مسكينة أيضاً؟