حروب أُخرى

06 أكتوبر 2024
+ الخط -

 

تخوض النساءُ حروبًا متعددةً في حربٍ واحدة، وحروبُ النساء لا حلولَ لها! حتى لو توصَّل المتحاربون إلى حلولٍ أو تسويات.

قُتِلَت سيدةٌ بنزيفٍ حادٍّ جرّاء إصابتها بشظيةٍ صاروخيةٍ في رقبتها، لم تمرّ حادثةُ موتِ السيدة كما مرّ سقوطُ باقي الضحايا، هي امرأة، شخصيةٌ عامةٌ وجميلة، لكن للأسف خاضت الضحيةُ موتًا إضافيًّا حين تناقلوا صورَها مع عباراتٍ مهينةٍ للكرامة الإنسانية ولحقّ الضحايا في الحماية الشخصية، كتبوا ورددوا عباراتٍ قاتلةً كالصواريخ فقط لأنها محسوبةٌ على الضفة الأخرى من الحرب، محسوبةٌ على سواهم لدرجة أن كثيرين شكّكوا في موتها بمنزلها وتعددت الرواياتُ الاتهاميةُ بحقّها، كما بالغ أحدُهم في الشماتة الهمجية حين كتب (صحي ضرب بس حدها جهنم) بمعنى أن جمالَها لم يشفع لها ولا يمنحها حقَّ التعامل معها بوصفها امرأةً ضحيةً في ظل حربٍ مجرمة، لم يمنحها موتُها حتى فرصةَ التعاطف فقط لأنها محسوبةٌ على الطرف الآخر! حتى التعاطفُ على أساس الشكل واللون ومقاييس الجمال هو تعاطفٌ تمييزي، يُخرِج بعضَ الضحايا من دائرة حقّهم في الحماية والسلامة والحياة.

تخيَّلوا حين نفاضل بين همجية الحرب وبين همجية الاتهامات والتشكيك والاتهامات! لا تموت النساء مرةً واحدةً، بل ميتاتٍ متعددةً قولًا وفعلًا وتشكيكًا، تمييزًا وتجاهلًا، والمزيدَ من الشبهات والتلاعب حتى في حكايات موتهنّ. نشارك القاتلَ جريمتَه، ونُمعِن في قتل النساء ونصير كلّنا قَتَلَة بوجوهٍ متعددةٍ وبطرقٍ مختلفة.

نزحت النساءُ وحيدات، فقط لأن الرجال سيكونون قيدَ الاعتقال أو التوقيف أو المساءلة إن عادوا إلى بلدهم، في لحظةٍ اسمُها الحرب يحتاج الجميعُ خاصةً أفرادَ العائلة ليكونوا معًا، لكن على النساء العودةُ وحيداتٍ مع مسؤولياتٍ جسامٍ تتعلق بالاهتمام بالعائلة وبتدبّر شؤونها والتحكم في ردود الفعل كلّها، واختيار الأجوبة التي تُنجي ولا تُغرِق أحدًا من العائلة في فخّ الأسئلة أو الأجوبة غير المدروسة! كيف للنساء أن يتحلَّين بالحكمة البالغة في أتون معارك متعددةٍ وشرسة؟ وهنّ وحيداتٌ وعُزَّلٌ من كل وسائل الحماية أو حتى القبول بوجودهن.

في الحرب وحين يعجز الكبارُ عن وقف العدوان أو ردّه، حين يعجزون عن حماية الجميع يطالبون النساءَ بأن يَنَمْنَ بلباسهن الكامل مخافةَ الموت مكشوفاتٍ للغير

في الحرب وحين يعجز الكبارُ عن وقف العدوان أو ردّه، حين يعجزون عن حماية الجميع يطالبون النساءَ بأن يَنَمْنَ بلباسهن الكامل مخافةَ الموت مكشوفاتٍ للغير! أي وحشيةٍ تسكن عقولَ البشر التي تفكّر في أجساد النساء وهنَّ موتى! وحين تضطرّ النساءُ إلى النوم في العراء لأن أحدًا لا يفكر ولا يسعى لتأمين مأوى لهن، يتم ترتيبُ النوم بطريقةٍ تجعل الرجالَ من أجسادهم سورًا لأجساد النساء خوفًا من التحرش والتلصص! تدفع النساءُ هنا ضريبةَ وجودهن نساءً، يسدّدن فواتيرَ أجسادهن المذعورة فقط لأنها تشكّل فتيلًا لمعارك أخرى قد تنشب بحكم فائض القوة الممنوحة للرجال وبسبب القاعدة التي تبرّر أحقيةَ استحواذ المجتمع على أجساد النساء.

تقضّ مضاجعَ النساء صورُ نساءٍ أخرياتٍ أعلنّ أنهن باقياتٌ في بيوتهن، يفور الدمُ ويتحكم اليأسُ فيهن! يكمن جوهرُ الظلم في أنهنّ لا يملكنَ المقدرةَ على البقاء؟ هل يملكن ترفَ البوح بأنهن يكرهن النزوح لأنهن اختبرنه جيدًا؟ لأنه عالقٌ على أجسادهن كوَحْمَةٍ ساطعة، كعلامةٍ دامغةٍ لجرحٍ يتجدد؟ على الضفة الأخرى ثمة نساءٌ يعملن في المنازل، غريباتٌ لا يحملن جنسيةَ أهل البلد، تركهن مشغّلوهم في الطريق بعد أن سافروا خارج البلد ينشدون دربَ السلامة الذي يملكون المقدرةَ عليه، لم تستقبلهن مراكزُ الإيواء، لم يترك لهن مشغّلوهم وثائقَ سفرهن ولا نقودًا أو ملابس، وبعضهن تُرِكْنَ في الشوارع حتى بدون هواتفهن.

هي الحربُ بألف وجه، بألف أداةٍ للقتل، تدور رحاها لتقتل، لتُميت جذوةَ الحياة، والنساءُ هن القتيلاتُ اللواتي يتكرر موتهن وكأنَّ ألفَ حربٍ تستهدفهنّ في كل حرب.

دلالات
سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.