حتى الجحيم قليل عليها

01 ديسمبر 2023
+ الخط -

لم أكن أفهم حين يكون هناك صفقة لتبادل أسرى بين فلسطين وإسرائيل، لِمَ كان الإسرائيليون يسارعون لحملة اعتقالات في الضفة والقدس، وحيث تطاول أيديهم الطويلة أبرياء فلسطينيين؟ بدا ذلك وكأنّهم يحاولون تعويض النقص المتوقع في أعداد الأسرى في سجونهم مسبقاً؟ فلم يكون هناك نقص؟ وبماذا تحديداً؟ ما الفكرة؟

بالطبع، كانت هناك تخمينات. لكنها لم تكن حاسمة. هكذا، بقيت الملاحظة مجرّد انطباع معلقة على ذيله علامة استفهام، خصوصاً أنّ تطورات الحدث نفسه كانت تأخذ بالانتباه بعيداً عن الاهتمام بالإجابة.

لكن تكرار الأسلوب هذه الأيام، في إطار المفاوضات على ملف تبادل الأسرى، جعلني أعيد إخراج السؤال إلى شاشة العقل: ما هي مصلحة الإسرائيليين بالاحتفاظ بأعداد كبيرة من المعتقلين الفلسطينيين؟ فعدد هؤلاء عندها بالآلاف، مما سيكفي لعشرات عمليات التبادل المحتملة. أمّا إن كانت تستبق نتيجة التفاوض في حال كان نجاحاً فلسطينياً في تبييض السجون وإفراغها من الأسرى، على غرار ما تحاول أن تقوم به حركة حماس حالياً، فبإمكانها، أي إسرائيل، أن تعتقل من تشاء بفعل واقع الاحتلال، وأن تقوم بذلك بعد إتمام الصفقة ولديها كلّ الوقت. فلم تفعل أثناء التفاوض؟ 

ففي أيام الهدنة الماضية القليلة، قامت دولة الاحتلال باعتقال 168مواطناً فلسطينياً من الضفة الغربية والداخل، فضلاً عن بلوغ حصيلة حملات الاعتقال منذ معركة "طوفان الأقصى" أكثر من 3290 أسيراً، حسب منظمة "الضمير". فهل يعقل أن تكون هناك مصلحة اقتصادية ما في ملء السجون الإسرائيلية؟ لكن ما قد تكون؟

بلغت حصيلة حملات الاعتقال الإسرائيلية ضد الفلسطينيين منذ بداية عملية طوفان الأقصى أكثر من 3290 أسيراً، حسب منظمة "الضمير"

سألت إحدى الصديقات من "الداخل": إلى أي جهة تتبع مصلحة السجون الإسرائيلية؟ لحكومة الكيان؟ أم إنّ بعضها يتبع لشركات خاصة تدير بعض السجون، خصوصاً الفلسطينية على غرار النظام الأميركي؟

"كل اشي في إسرائيل له جانب اقتصادي"، قالت لي تلك الصديقة "انظري كم موظفاً وموظفة في مصلحة السجون؟ تبييض السجن يعني فقدان هؤلاء وظائفهم". كذلك ذكرتني تلك الصديقة بالمعلومة المدهشة التالية: وهي أنّ الأسرى، وعكس سجون العالم، يدفعون ثمن وجباتهم وأدويتهم وسائر حاجاتهم من جيوبهم!

ربّما كان ذلك جزءاً من الإجابة، لكنّي أظن أنّ الأمر معقد أكثر من ذلك، خصوصاً أنّي عثرت على مقالة أرسلها لي صديق عن نجاح حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) في إجبار أكبر شركة أمن خاصة أميركية (G4S) على سحب استثماراتها وإلغاء عقودها كافة مع إسرائيل (عام 2016 ) "إذ كانت هذه الشركة توفر المعدات والخدمات الأمنية للسجون وللحواجز العسكرية والمستعمرات غير الشرعية ومباني جيش الاحتلال والشرطة"، حسب تعبير بيان الحركة التي قامت بحملتها آنذاك بطلب من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. 

الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، وعكس سجون العالم، يدفعون ثمن وجباتهم وأدويتهم وسائر حاجاتهم من جيوبهم

إذاً، الأمر يتطلب مزيداً من التدقيق، لكنّي اكتشفت أثناء بحثي أنّ مصلحة السجون في إسرائيل تمتلك نظاماً صحياً منفصلاً عن النظام الصحي الإسرائيلي العام! إذ تتولى شركة خاصة (مرّة أخرى) تعيين أطباء ومسعفين غير تابعين لنقابة الصحة أو وزارة الصحة الإسرائيليتين أو لأي جسم مختص طبياً. وتشكّل المنظومة الأمنية، سواء جهاز المخابرات (الشاباك) أو مصلحة السجون، المرجعية الوظيفية والمهنية الأساسية لهؤلاء الأطباء الذين يُفترض بهم أن يعالجوا الأسرى والمعتقلين، والأهمّ أنّها تشكّل كذلك الضمانة القانونية بألا يتعرّضوا لأيّة مساءلة لاحقاً كونهم يشرفون على التحقيق مع المعتقلين، أي على تعذيبهم.

تقول منسقة "وحدة التوثيق والدراسات في مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان" في مقابلة لموقع "حبر" إنّ لقاء الأسير الأوّل مع الطبيب يُستخدم لتمييز نقاط الضعف الجسدي لدى المعتقل الفلسطيني، بحيث يدركها جهاز التحقيق ويستغلها، في التعذيب الجسدي أو النفسي. وأحياناً، تضيف، يحضر الأطباء مع قوة الاعتقال، حيث رصدت مؤسسة "الضمير" مثلاً، مشاركة طبيبة إسرائيلية في اعتقال شابة فلسطينية كجزء من قوة تابعة للجيش. قامت تلك الطبيبة بإدخال يدها في جميع تجاويف جسم المعتقلة، حتى المَهبل، كإجراء تفتيش احترازي!

"الحديث عن الطبيب الإسرائيلي زي الحديث عن الجندي والمحقّق، ما في أي فرق بينهم"، يقول أحد الأسرى، ويضيف أنّ الأسرى المرضى يجهلون حتى ما هو تشخيص آلامهم، إذ لا يتعاملون مع أطباء يتحدثون العربية، ولا يخبرهم أحد بنتائج التشخيص أو صور الأشعة أو الفحوصات، وهو ما يثير الشك حول مصداقية العلاج أو مدى ملاءمته للحالة المرضية أو حتى إمكانية تورط الاحتلال في إجراء تجارب سريرية على الأسرى.

لقاء الأسير الفلسطيني الأوّل مع الطبيب يُستخدم لتمييز نقاط الضعف الجسدي لدى المعتقل الفلسطيني، بحيث يدركها جهاز التحقيق ويستغلها، في التعذيب الجسدي أو النفسي

وبالفعل، فإنّ هذه المعلومة تفضي الى إجابة عن السؤال الآخر: لم قامت إسرائيل بالاستيلاء على جثامين الشهداء؟ وآخر حملاتها كانت مصادرة جثامين عشرات الشهداء من المقبرة الجماعية التي حفرها أطباء في باحة مستشفى الشفاء في غزّة قبل أيام من دخول جيش الاحتلال إليه.

بكلّ بساطة إسرائيل متورطة في سرقة أعضاء الشهداء، لا بل حتى سلخ جلودهم، كما توضح ذلك تحقيقات وتقارير عدّة قامت بها جهات حقوقية وإنسانية شتى منذ سنين. المشكلة أنّ هذا الكلام، لا يعرفه الكثيرون نظراً للتعتيم الدائم على جرائم الاحتلال. لذا فترداد هذه الحقائق اليوم هي محاولة لاستغلال انتباه الرأي العام العالمي اليوم لإيصال ما يعرفه الكثيرون، وتجهله الغالبية.

تقارير كثيرة تقشعر لها الأبدان، عن التجارب التي تُجرى على المعتقلين والشهداء بالتواطؤ مع الأطباء الإسرائيليين. تجارب على أساليب التعذيب، على أدوية، على عمليات غسيل دماغ. 

أمّا الجثامين؟ فلقد جحظت عيناي حين قرأت تقارير أنس أبو عرقوب، الباحث الفلسطيني الذي كان أول من كتب عمّا يسمّى "بنك الجلود الإسرائيلي" الذي تأسس عام 1985. يقول الباحث، نقلاً عن بروفيسورة إسرائيلية اسمها مئيرة فايس، كانت تعمل فيما يسمّى "معهد الطب العدلي" الإسرائيلي بأنّه تم أخذ الأعضاء من جثامين الفلسطينيين عندما كانت تعمل بالمعهد! وأنّه تم نقلها إلى بنوك أعضاء متعدّدة في البلاد، حيث تُعتبر إسرائيل الثالثة والثلاثين عالمياً في زراعة الأعضاء، لكنها بالمقابل في مرتبة متأخرة لجهة التبرّع بالأعضاء. 

إسرائيل متورطة في سرقة أعضاء الشهداء، لا بل حتى سلخ جلودهم، كما توضح ذلك تحقيقات وتقارير عدّة قامت بها جهات حقوقية وإنسانية شتى منذ سنين

وهذا ما تفسره فايس صراحة حين تشير إلى أنّ "نسبة المتبرعين اليهود بالأعضاء تكاد تصل إلى صفر!". إذا؟ من أين تأتي الأعضاء المزروعة؟ تجيب تلك السيدة بأنّها تأتي عادة من جثامين الفلسطينيين أو المهاجرين الأجانب، أي من لا يسأل عنهم أحد، حسب تعبيرها! أمّا الأدهى، فهو كما يقول تقرير آخر، أنّ معهد الطب العدلي هذا يقوم بتزويد ما يسمّى "بنك الجلد" التابع للجيش الإسرائيلي (أسس عام 1985) بجلود الفلسطينيين من الشهداء المحتجزة جثامينهم. أمّا الجزء الذي يطعن قلبك في مقتل؟ فهو حين قالت إنّ السلطات الصحية الإسرائيلية لا تمس أجساد الجنود الإسرائيليين القتلى للحصول على أعضاء بديلة لجنود آخرين، بل يأخذونها، بكلّ بساطة، من الفلسطينيين.

أي أنّ إسرائيل تستخدم أجساد الشهداء الفلسطينيين كقطع غيار للجنود الإسرائيليين الذين.. قتلوهم. يا للفظاعة اللاأخلاقية، يا لهذا الاحتلال لجسد فلسطين أرضاً، أو إنساناً، يا للاستباحة! 

لم يبق إلا شيء واحد لم يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين: لم يأكلوهم، أو قد يكونون فعلوا؟

إسرائيل الشريرة كشيطان أعمى سكران بفائض قوته يضرب كيفما اتفق، يفعل ما يشاء، ينشر الشر كيفما أدار وجهه. هذا الشيطان الذي تغض مؤسسات العدل الدولية نظرها عن أفعاله، يستحق من السماء حين تعاقبه، وستعاقبه، أن يكون له جحيم خاص، استثنائي. فالجحيم الذي تتخيّله عقولنا الساذجة، والذي تتوّعد به السماء الأشرار، لا يليق بفن الجريمة الذي ابتدعته إسرائيل، وافتتحت فيه فصولاً لا يمكن لأي مخيلة شريرة عبر التاريخ الإنساني أن توازيها. 

الجحيم الذي نعرفه، حقاً، قليل عليها.