جنين.. الحاضر والذاكرة
حين كنت في الخامسة من عمري، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي متأهبةً على مدخل مخيّم جنين، تستعدّ لاقتحامه، بالأمر المباشر من رئيس الوزراء حينها، آرائيل شارون، واليوم، وأنا أبلغ السادسة والعشرين من عمري، تقف قوات الاحتلال متأهبةً على مدخل مخيّم جنين، ثم تقتحمه بشراسة، بالأمر المباشر من رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وبإشراف ميداني لقائد وحدة الكوماندوز في جيش الاحتلال الإسرائيلي.
واحد وعشرون عاماً والاحتلال بدولته السرطانية يقف متمترساً خلف آلياته، مع فروق شاسعة أحدثتها التكنولوجيا، بين جيشيه العملاقين، في ذلك الزمان وفي هذا الزمان، أمام المكان نفسه، متوّقعين (بالعقلية نفسها) أن يحصلوا على نتائج مختلفة.
في إبريل/ نيسان 2002، ظلّ الاحتلال 11 يوماً في المخيم، محاولاً تقطيع أوصاله، والقضاء على العمل المسلّح فيه، وتدمير "الخلايا" التي تسبّب له صداعاً، وتُوقع في صفوفه القتلى، ليخرج بالانتصار المزيّف، بجثث 58 فلسطينيّاً حسب أرقامه الرسمية، بينما تتحدّث الأرقام الحقيقية عن نحو 500 شهيد، فضلاً عن تدمير المخيّم نفسه، بالرصاص، والقناصة، والأباتشي، والدبابات، والمجنزرات، أمام شبان يمتلكون السلاح الأبيض، والسلاح الناريّ بنسخه الصدئة، التي لا تصلح لاصطياد عصفورة (لكنها في أيديهم كانت تصطاد الكثير من الفرائس).
وانتهت قصة الاحتلال حينها مع مخيّم جنين، ولم تنتهِ قصة المخيّم نفسه، كانت مجرّد حلقة كبيرة، مهما تضخم حجمها، ضمن سلسلة طويلة لا تنفرط من تاريخ تلك البقعة مع المقاومة، والجكَر، أقل من نصف كيلو متر مربع هي مساحة ذلك المكان، لكنها على صغرها كبيرة جدّاً في تاريخ النضال الفلسطيني، وكبيرة جدّاً في وصمات العار الإسرائيلية، حيث يُقهر "الجيش الذي لا يقهر" كلّ مرّة، بل ويتقهقر، عائداً أدراجه، بأبرياء حصد أرواحهم، وجنود خسرهم، وآليات ربّما أصابها العطب أو التعب.
جِنين، رغم اقتحامها، هي امتداد الوطن المقاوم، والتاريخ النبيل، لا تُمحى من على وجه الأرض، لأنها الأرض ذاتها
واحد وعشرون عاماً والمعادلة لم تتغيّر، هل حين تجمع ذرتين من الهيدروجين مع ذرة من الأكسجين تحصل على شيء غير الماء؟ هل حين تضيف الملح إلى الطعام تستطيع تذوّق السكر؟ المعادلة ثابتة، والنتائج هي ذاتها، كلما دخل الاحتلال إلى جنين خرج منهزماً، لأنه يعتقد بسذاجة أن المقاومة ملموسات ماديّة يمكن اجتثاثها، أو ظاهرة يستطيع "تجفيف منابعها" بدروعه الواقية، لكن الفكرة أن المقاومة في جنين فكرة، شيء يتسلل مثل الهواء تماماً، لا تستطيع محاصرته، ستغتال رموزه الظاهرة أجل، لكنك بعد سنوات قليلة ستفاجأ بآخرين، يشبهون الذين قتلتهم، لكنهم هذه المرّة أكثر شراسة وضراوة، لأنهم محمّلون باثنتين، فكرة المقاومة، وفكرة الثأر.
هذه المرّة دخلت النخبة، ألفٌ من أعتى جنود الاحتلال وضباطه، الكوماندوز والقوات الخاصة، الجرافات والدبابات والمدرعات والمقاتلات، أكبر عملية في الضفة الغربية منذ عام 2002، لماذا؟ لاقتلاع الشيء نفسه الذين أكدوا أنهم اقتلعوه في الحادي عشر من إبريل/ نيسان عام 2002، ثم يعودون مجدداً بزعم اقتلاعه، لكنهم في الحقيقة لا يقتلعون إلا الوهم، لتبقى الحقيقة قائمة، متجليةً، في أبهى صورها، وهي أنّ جنين الحاضر، هي هي جنين الذاكرة، وأنّ جنين المخيّم هي هي فلسطين الأرض، وأنّ فلسطين الأرض هي هي المشهد الواضح كالشمس، أنّ جنين، رغم اقتحامها، وبعيداً عن الشعارات وكلام المقالات، هي امتداد الوطن المقاوم، والتاريخ النبيل، لا تُمحى من على وجه الأرض، لأنها الأرض ذاتها.