ثمن اللقاح للفلسطيني
بعد ستة أسابيع من حملة التطعيم في دولة الاحتلال؛ تلقّى أكثر من واحد بين كلّ ثلاثة "إسرائيليين" الجرعة الأولى، ليصل الآن إلى 3.7 ملايين، بما يعادل 42,6 بالمائة والجرعة الثانية 2.3 مليون بنسبة 26,9 بالمائة من أصل تسعة ملايين نسمة بحسب إحصائية قدّمتها جريدة "دير شبيغل" الألمانية في 10 فبراير/ شباط 2021. لا توجد أي دولة في العالم تقوم بالتطعيم بسرعة "إسرائيل".
مع بدء دولة الاحتلال التطعيم صرّحت عن نيّتها إرسال 5 آلاف جرعة للضفّة الغربية وغزّة، وهي بالكاد تكفي للكوادر الطبية، مع الإشارة إلى أنّ عدد سكان الضفّة يصل إلى ثلاثة ملايين نسمة وغزّة إلى مليونين.
الدكتورة "شيلي كامين فريدمان"، المحامية وخبيرة في القانون الطبي والصحي، الأستاذة في جامعة بن غوريون في بئر السبع وجامعة حيفا تقدّمت بتقرير نيابة عن منظمتين لحقوق الإنسان طالبت فيه بحق التطعيم للفلسطينيين.
بالمقابل السلطة الفلسطينية رفضت بشدّة الحصول على اللّقاح من الاحتلال دون أن تقدّم بدائل ناجعة للشعب، فقد حصلت في المرّة الأولى يوم الإثنين 1 فبراير/ شباط على ألفي جرعة يتيمة من «موديرنا» دون أن تفصح عن مصدرها، واستقبلت أيضاً 10 آلاف جرعة منحة روسية يوم 4 فبراير/ شباط من اللّقاح الروسي "سبوتنيك"، الذي أثبت فعالية تصل إلى 90 بالمائة بحسب دراسة حالية من قبل علماء رفيعي المستوى. كذلك أعلنت منظمة الصحة العالمية في أوائل فبراير/ شباط في إطار مبادرة "كوفاكس" من أجل ضمان استفادة دول العالم من اللّقاحات في تقديم عشرات الآلاف من الجرعات للفلسطينيين، إلّا أنّ الأخيرة لم تتجاوز لغاية اللحظة حدّ التصريحات.
الأكثر قرباً إلى الحقيقة هو الفلسطيني الذي يقف أمام مواجهة مجحفة لخصمين وحده؛ الجائحة التي تتركها إدارة رام الله لوعي المواطن وقلّة حيلته وعجزه، ومحتلّ يستنزف رمقه الأخير
أمّا الأنظمة العربية فهي منهمكة بالوضع الداخلي، مستثنية الشأن الفلسطيني وكيفية الوقوف معه للحصول على اللّقاح؛ وبهذا تمنح الأخيرة دولة الاحتلال لعب دور الإنسان عالمياً وتلميع صورته أكثر على حساب الحق الفلسطيني الضائع.
التطعيم متاح أيضاً لعرب إسرائيل الذين يعيشون في أماكن تعتبرها الأخيرة رسمياً أراضيها، وهذا يشمل على سبيل المثال القدس الشرقية، لكن لا يشمل الضفّة الغربية، على الرغم من احتلال إسرائيل أجزاء من المنطقة منذ عام 1967م. وقد قوبل تطعيم المستوطنين الإسرائيليين في المناطق الفلسطينية دوناً عن الفلسطينيين بانتقادات دولية، وقد تذرعت إسرائيل في ذلك بعدم تقديم القيادة الفلسطينية طلباً رسمياً للحصول عليه، بينما ترى فريدمان أنّ على دولتها واجب أخلاقي وإنساني لتوفير اللّقاح للفلسطينيين، فعلى الأقل يجب أن تعرضه على الإدارة الفلسطينية ولها الخيار حينها بالرفض أو القبول.
ما إذا كانت إسرائيل مسؤولة قانونياً عن تطعيم الفلسطينيين باعتبارها قوة محتلّة، كونها تتمتّع بالسيادة على الحدود وعلى أجزاء من الضفّة الغربية، وباستثناء قطاع غزّة، هو أمر تقرّه على أرض الواقع معايير القوة والضعف. من ناحية أخرى تتكئ إسرائيل على اتفاقية أوسلو، والتي بموجبها تتحمّل السلطة الفلسطينية كامل المسؤولية في الرعاية الصحية لمواطنيها. ويتّضح من خلال هذه المعادلة بجلاء التزام الإدارة الإسرائيلية ببعض بنود أوسلو التي تخدم مصالحها وتوظّف أخرى لإخفاق الحق الفلسطيني.
وهنا جزئية أخرى يبدو أنّ دولة الاحتلال لم تأخذها بعين الاعتبار، أو لعلّها أهملتها بإدراك كامل وغير حكيم؛ فلدى الجانبين اتصالات منتظمة، وأهمّها العمالة الفلسطينية في الداخل، والتي تتجاوز 120 ألف فلسطيني من الضفّة الغربية. فالفيروس لا يتوقف عند المعابر، ولو أرادت إسرائيل الحصول على المناعة المجتمعيّة - ولعلّ هذا المسمّى هو الأصح من القطيع - لكان لزوماً منح اللّقاح لكلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.
سؤال تناولته جهات كثيرة وتداولته صحف ومواقع عدّة عن الآلية التي عملت بها إسرائيل لتأمين اللّقاح الكافي للدولة برمّتها، لتصبح الأولى عالمياً بعدد متلقيه، لا بل وتسبق الدول المنتجة.
يرى البروفسور "أرنون آفيك"، المدير العام السابق لوزارة الصحة الإسرائيلية، أسباباً مختلفة للمسار الناجح وبشكلّ خاص لحملة التطعيم في إسرائيل، فيعزو أولاً التفوّق إلى المنظومة الصحية القوية واعتماد النموذج الألماني بشركات التأمين الصحي والمستشفيات، فاليهود الألمان الذين هاجروا إلى إسرائيل جلبوا معهم العلم والمعرفة وأقاموهما. ثانياً التقنيات الحديثة مع المعدات الطبية عالمية المستوى ومرافق التخزين الممتازة للقاح.
بينما الحقيقة الأخرى الأكثر فعالية مع هذا التفوّق هي وصول الجرعات الأولى التي بلغت ثمانية ملايين من شركة «بيونتك - فايزر» وستة ملايين من موديرنا في 9 ديسمبر/ كانون الأول والتي استقبلها بنيامين نتنياهو شخصياً وصرّح عن كميتها. أمّا عن أعداد الكميات الحقيقية والأرقام الدقيقة فهي سريّة ولم يُعلن عنها، وتتجاوز التصريحات الرسمية بكثير، بالإضافة إلى مساهمة.
المدير الطبي الإسرائيلي لشركة موديرنا الدكتور "تال زكس" أنهى دراسته في بئر السبع، ودفْعت حكومته 40 بالمائة زيادة على سعر اللقاح المتداول.
وفي نفس الوقت تتذرّع الدول المصنّعة بضعف القدرات الإنتاجية كألمانيا مثلاً! والمثير للاستهجان في هذا الصدد هو التراجع الحكومي الألماني عن وعوده وتضاربها الدائم حول عدم توفير اللقاح الكافي وبالوقت المحدّد، إذ بلغ عدد الملقّحين بالجرعة الأولى ما يزيد عن مليونين و 600 ألف؛ 3,17 بالمائة، والجرعة الثانية أقل من مليون و400 ألف؛ 1,6 بالمائة، من أصل 83.1 مليون نسمة، بحسب المكتب الفدرالي الألماني للإحصاء.
أمّا المنظومة الصحية الفلسطينية فهي معتمدة بشكل كبير على إسرائيل لضعفها الجسيم، لذلك عدم وجود تنسيق من الجانب الفلسطيني، لا بل رفضه، هو دلالة على إهمال لا يغتفر للسيطرة على الجائحة، فليس هناك أي مبرّر - عدا الجهل - لعمل لجان صحيّة علنيّة مع الجانب الإسرائيلي لغياب الدور العربي، مع العلم أنّ هناك محادثات سريّة ثنائية جارية تتناول البرنامج الانتخابي الفلسطيني.
الأكثر قرباً إلى الحقيقة هو الفلسطيني الذي يقف أمام مواجهة مجحفة لخصمين وحده؛ الجائحة التي تتركها إدارة رام الله لوعي المواطن وقلّة حيلته وعجزه، ومحتلّ يستنزف رمقه الأخير مستثمراً أطماع السلطة والفيروس لنخره وهدمه.