تونس.. لا تحولوا البلد إلى سجن كبير
لم تكن "نهاية الديمقراطية" في تونس مشكلة النخب السياسية والأحزاب فقط، بل كانت وستظلّ مشكلة الشباب أيضا. فمن سوء حظ جيلنا أنه لم يُستمع إلى صوته، لا في تجربة الانتقال الأولى، ولا في تجربة النظام حالياً.
عندما سُئل الرئيس قيس سعيّد يوماً عن كتابة الدستور الجديد، وفصوله التي قد يحتويها، قال: "هو ما خطّه الشباب على الجدران". وهو يقصد بذلك تلك الكتابات الحائطية على جدران الشوارع، التي يعبّر فيها الشباب عن النقمة، والقلق والاحتقار الذي يعيشونه. ولكن من سوء تقديرنا، أو سذاجتنا أحيانا، نحن الشباب، أننا نصدّق كلام السياسيين، ونقع في نفس الخطأ دوماً.
فقد أوقف، منذ يومين، طالبان في إحدى مناطق الشمال الشرقي بالبلاد، بعد أنّ نشرا فيديو تهكّمياً حول معاملة الأمن للشباب الواقعين في جرائم المخدرات، وكيف يجرى التعامل معهم، وإيقافهم تعسفياً دون إعلام عائلاتهم بذلك، بالرغم من أنّ الفيديو لم يتضمن ألفاظاً نابية، أو تصرفات غير أخلاقية. وقد لقي المقطع انتشاراً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، كما لقي خبر إيقافهما نقداً ورفضاً مبدئياً لتصرّف السلطات مع حركات الشباب العفوية.
وليست الحالة الأولى التي تعتبر فيها الأجهزة الأمنية أنّ مجرّد فيديو موجه للتندّر والضحك يمثل تهديداً خطيراً لأمنها، فقد حصلت قبلها حالات عدّة مشابهة لها، من بينها الحكم الصادر، منذ أيام قليلة، ضد أحد الصحافيين، بالسجن 5 سنوات، بسبب مقال له نُشر في موقع الإذاعة التي يشتغل فيها.
تشير الكثير من التقارير إلى أنّ حوالي 20 ألف شخص جرى منعهم من الهجرة عبر "قوارب الموت" إلى أوروبا منذ بداية السنة الحالية، مقابل 4600 شخص خلال نفس الفترة من السنة الماضية.
وكان المعهد الوطني للإحصاء أعلن، في فترة سابقة، عن ارتفاع نسبة البطالة في البلاد إلى 16.1% خلال الربع الأول من العام الجاري، مقارنة بالربع الأخير من العام 2022. ومع الإشارة إلى الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة التي تمرّ بها البلاد، فإنّ أرقام البطالة والهجرة غير الشرعية تعتبر مؤشراً واضحاً لحالة "العطوبة الاجتماعية" التي يعيشها الشباب خصوصاً.
تونس سجن كبير... كلّ الناس فيه متهمون بتشويه سمعة النظام، إلى أن يثبت صمتها عن نقده
وارتبطت مشاكل الشباب في تونس بحالة العجز عن إيجاد الحلول الحقيقية الجوهرية لدى النخب السياسية منذ الثورة إلى الآن. وظلّت مطالب التشغيل والتوظيف وتكافؤ الفرص معلّقة إلى أجل غير محدّد. واعتُبر التدخل الأمني لفضّ الاعتصامات والتظاهرات المشروعة الحل الأنجع والأسهل في نفس الوقت، لإنهاء المطلبية الاجتماعية، حتى وإن تطلّب ذلك قمع الأساتذة أو المحامين، حيث نجحت الحكومات السابقة، منذ سنوات، في إدارة أزماتها ببرامج تشغيلية هشّة، مكنتها من امتصاص الغضب الكامن في صدور الشباب، وتجاوز نقمتهم الموّجهة نحو السلطة دائما. ولم يسلم الشباب من تجاوزات السلطة ضدهم، كما لم تنجح السلطة بصد الشباب عن أيّ ممارسة نقدية أو أيّ سلوك يعبّرون من خلاله عن رفضهم الأمر الواقع وتغييره.
ما السوء الذي يوجّهه الشباب إلى بلادهم إذا انتقدوا وضعا ما؟ لماذا تتجاوز السلطة كلّ الأساسيات القانونية والتشريعية والأخلاقية، لتمارس ضغطها كلّما عبّر أحدنا عن قلقه! أو طرح بعضاً من تساؤلاته المشروعة؟
ربما اليوم قبل سابقه، بدأت تتضح لنا الإجابة عن تساءل المدوّن المعارض لنظام بن علي السابق، زهير اليحياوي: "هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوان، أم سجن"؟.
تونس سجن كبير.. كلّ الناس فيه متهمون بتشويه سمعة النظام، إلى أن يثبت صمتهم عن نقده.