تونس: الشباب ليسوا إلا كلمة

10 يناير 2019
+ الخط -
أثارت حادثة انتحار أحد الصحافيين منذ أيام، في محافظة القصرين، بالجنوب التونسي، موجة استياء لدى الشباب، واحتجاجات واضطرابات حادة في بعض المناطق، تنديدا بالوضعَين الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه الشباب، خاصة في السنوات الأخيرة.

وبغض النظر عما إذا كانت العملية، بفعل ذاتي، أم بفعل فاعل، أي بعملية حرق متعمدة، لإحداث فوضى واضطرابات من شأنها أن تهدد "الاستقرار السياسي" كما تروج الأخبار، فإن هذه الأفعال دائما ما تعيدنا، إلى الحديث حول الشباب ووضعياتهم الاجتماعية والاقتصادية الهشة.

أشار تقرير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لشهر سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى حصول 591 حركة احتجاجية على كامل البلاد، لأسباب اقتصادية واجتماعية أساسا. وسجل التقرير 34 حالة محاولة انتحار حصلت في الأوساط التونسية.. وارتفع الرقمان في التقرير الصادر عن المنتدى لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني، إلى 746 حركة احتجاج، و46 محاولة انتحار، نصفهم في الفئة العمرية ما بين 26 و35 سنة.

لا يمكن فهم هذه الظاهرة، إلا من زاوية واحدة.. زاوية سياسية تفترض، أنّ انسداد الأفق السياسي لعملية التحول الديمقراطي، أنتج هذه التوترات السياسية والاجتماعية والنفسية الخطيرة. فبعد أن كان الشباب صاحب المساهمة الكبرى في الانتفاضة التونسية، وهو يمني النفس بثمارها، صار يعيش أعطابا اجتماعية، بين الشعور بالانتماء إلى الفضاء الذي يعيشه، والابتعاد عنه. موصومٌ باستمرار بالاحتقار (الحقرة)، والفشل الاجتماعي، وبالضياع والعجز.


استُبعدت الشبيبة من الفضاء السياسي الرسمي، ومن الفعل السياسي الذي يغير السياسات باتجاه المصالح.. طرد الشباب، واستفردت نخب سياسية تافهة وفاسدة في جزء كبير منها، بإدارة مصالحها. وأصبحت السلطة حكرا على فئة من الانتهازيين والمستغلين، والعجزة..

لقد أدى تراجع دور دولة الرعاية الاجتماعية، في العقود الأخيرة، وضعف مؤسسات الأمان.. كالأسرة والمدرسة، ولم يبق من مؤسسات الدولة الفاعلة، سوى أجهزة الأمن والبوليس.. وسيادة العمل الهش على حساب العمل المنظم الضامن للمكانة الاجتماعية، والاستقرار النفسي.. أدى كل ذلك إلى تهميش الشباب، وإقصائهم، وصارت بذلك الشبيبة عنوانا للمشكلات الاجتماعية في تونس.

وصارت موائد النخب السياسية تناقش مشكلات الشباب من زاوية نقد ذاتية لتلك الفئة، بخطاب سياسي يوجه الاتهام لها، وبمبررات سياسوية، يلقي فيها العاجزون بنفس حجم المسؤولية، التي تخلَوا عنها، على الشباب.

وباتت الهجرة غير النظامية، أهم ما يثير انتباه الشباب المعطل، وأكثر الحلول نجاعة عند الكثير منهم. وإذا ما أمكن ذلك، يلجأ آخرون إما إلى حركات التطرف، التي يجد فيها الأمان والاستقرار النفسي وحتى المادي.. وقد كان هذا سهلا في السنوات الماضية.. فيما ينتهي آخرون إلى مصير استهلاك المخدرات وترويجها.. وهذا حل سهل في الوقت الراهن..

في المقابل، تعمل النخب السياسية على تشويه كل احتجاج، ينتقد فيه الشباب سياسات التنمية الفاشلة، وأساليب التسويف التي تمارسها السلطة، وكيفية إدارتها للحوار، وحلولها الفاشلة، وعلى استعمال خطاب مضاد، يدافع، في مقابل ما يصفها بالفوضى، عن نظام غنائمي، زبوني، فاسد.. وقد أصبح سائدا هذا التصرف من "جيل جديد" ممن يمارسون السلطة بعد الثورة، وإن بشكل نسبي، وقد كانوا قبلها جزءا من المضطهدين والمبعدين عن ممارستها، وهم يستعملون خطابا ممجوجا، ومتناقضا، يلقي بكامل اللوم على الشباب، بحجة "الأمن العام".

ففي المطلبية الاجتماعية، يتحول الخطاب الرسمي من خطاب متغن بحضور الشباب، إلى خطاب انتقامي غليظ، خاصة في السنوات الأخيرة، التي اتسمت بانفتاح للفضاء العام، وبالتالي تضييق الفضاء على النخب التقليدية التي تحكمها مصالحها ومصالح داعميها السياسيين والماليين..

يطالب السياسيون الشاب الذي لا يجد عملا، أو أنه يمارس عملا مؤقتا غير مضمون، بمزيد من العمل والمكابدة والسعي، والتوقف عن التذمر من إدارة الدولة وخدماتها، دون الالتفات إلى حقيقة الداء المتمثلة في عجز السياسيين عن إيجاد حلول جدية..

من منظور السلطة؛ الشباب ليسوا إلا كلمة.. كلمة مفرغة من المعنى، موظفة للمزايدات والتعبئة الإيديولوجية والسياسية للأحزاب، وهم مشروع انتخابي شعبوي ناجح لها. وهي فئة ضالة عند الأزمات، وغير متوازنة في نقاشاتها، وبالتالي لا يمكن أن تكون معول بناء.. ولكنها وقود دائم للصراعات الجانبية حول المصالح.