تآكل الحقوق الرقمية في الوطن العربي
في السنواتِ الأخيرة، ازدادَ المشهد الرقمي في العديد من دول المنطقة قتامةً، وباتَ محفوفاً بالتحدّيات بشكلٍ متزايدٍ للمواطنين الذين يسعون إلى ممارسة حقوقهم الرقمية الأساسية، مع جنوح كثير من الأنظمة لتشديدِ قبضتها على السلطة، حيث دخلت بعض الدول العربية في سباقٍ لإنفاذ عددٍ كبير من التشريعات المقيّدة وتدابير المراقبة، مما أدى إلى انتهاك حريات الأفراد في التعبير، والخصوصية، والوصول إلى المعلومات في الفضاء الإلكتروني.
وقد سلّطت كثيرٌ من التقارير مثل تقرير هيومن رايتس واتش الأخير "المراجعة السنوية لحقوق الإنسان حول العالم 2024"، الضوء على كثيرٍ من هذه الانتهاكات التي باتت للأسف تشكل توّجهًا عامًا، حيث تعرّض عددٌ من الكتاب والصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة للاعتقال والملاحقة والترهيب بسبب منشورات على الإنترنت، اعتُبرت منتقدة للأنظمة أو سياساتها، مما أدى إلى انتكاسة في حرية التعبير.
وتنوّعت التكتيكات والأدوات المستخدمة في انتهاك الحقوق الرقمية للمواطنين من خلال فرض قيود وتدابير مراقبة للتحكّم في تدفق المعلومات، ومنع الوصول إلى مواقع الإنترنت، وتقييد الوصول إلى المعلومات، وانتهاك الخصوصية، وقمع المعارضة وإسكات أصواتها عبر الملاحقات القانونية باستخدام قوانين فضفاضة وغامضة، وقطع الإنترنت عند الاضطرابات السياسية السلمية، كما شملت ادّعاءات كثيرة التجسّس والهجمات السيبرانية على النشطاء والحقوقيين.
يشكل تآكل الحقوق الرقمية في كثير من الدول تهديداً كبيراً للحرية في الفضاء الإلكتروني ويقوض المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان
كما تستمر بعض الحكومات، وحتى الغربية منها، بتمرير القوانين واللوائح التي تقوّض الحقوق الرقمية، مثل مطالبة مقدّمي خدمات الإنترنت بمراقبة المحتوى، أو المطالبة بالوصول إلى البيانات الخاصة للأفراد دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، متجاهلة الحقوق الرقمية للأفراد، والتي تشمل مجموعة واسعة من المبادئ وتدابير الحماية التي تُعتبر ضرورية لاستقلالية الأفراد وحماية خصوصيتهم وقدرتهم على التعبير عن آرائهم بحرية في العالم الافتراضي.
وتشمل هذه الحقوق الحق في الخصوصية، وحرية التعبير، والوصول إلى المعلومات، والأمن، وعدم الكشف عن الهوية، والملكية الرقمية. ومع ذلك، في العديد من البلدان، تتعرّض هذه الحقوق للتهديد، حيث تسن الحكومات تشريعات مقيّدة وتستخدم تقنيات مراقبة متطوّرة لرصد ومراقبة الأنشطة عبر الإنترنت، مما يساعد في استمرار الممارسات التي يمكن أن تُوصف بالقمعية.
فما المغزى من استمرار التفاخر بالتطوّر التكنولوجي والتقدّم في عالم الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات بينما تستمر الحكومات في قمع الحريات في الفضاء الإلكتروني، وانتهاك الحقوق الرقمية للأفراد؟ مما يجعل العديد من خطابات النجاح الرنانة في مؤتمرات التكنولوجيا وفعالياتها كلاماً فارغاً وعقيماً في نهاية المطاف، خاصة عندما تُسخّر هذه التكنولوجيا كأدوات للمراقبة والرقابة والسيطرة لصالح الحكومات، ما يستوجب أن يكون أيّ احتفال بالإنجازات التكنولوجية مصحوبًا بالاعتراف بالحقيقة الصارخة المتمثلة في أنّ هذه التطوّرات تُستخدم في العديد من المناطق لخنق المعارضة، وإسكات أصواتها، وتقليص الحقوق الأساسية مثل حرية التعبير والخصوصية.
ولا يمكن تحقيق التقدّم الحقيقي في العصر الرقمي إلا عندما يتم استخدام التكنولوجيا لتمكين الأفراد، وحماية حقوقهم، وتعزيز المبادئ الديمقراطية، بدلًا من استخدامها كوسيلة للقمع والسيطرة.
تسن الحكومات تشريعات مقيّدة وتستخدم تقنيات مراقبة متطوّرة لرصد ومراقبة الأنشطة عبر الإنترنت، مما يساعد في استمرار الممارسات التي يمكن أن توصف بالقمعية
وفي ظلّ هذا السياق المظلم تتطلّب حماية الحقوق الرقمية للأفراد الكثير من الجهود من قبل الأفراد والمؤسسات المعنية، من خلال المدافعة، والدعوة، والتوعية، وحشد التأييد من أجل إلغاء القوانين المقيّدة للحريات في الفضاء الإلكتروني، ورفع مستوى الوعي حول الحقوق الرقمية للأفراد، وتقديم الدعم لأولئك المستهدفين بسبب أنشطتهم السلمية عبر الإنترنت. كما العمل أيضًا على فرض معايير حقوق الأفراد، ومحاسبة الأنظمة على انتهاكات الحقوق الرقمية.
في الختام، يشكل تآكل الحقوق الرقمية في كثيرٍ من الدول تهديدًا كبيرًا للحرية في الفضاء الإلكتروني ويقوّض المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يجعل من دعم الحقوق الرقمية وحمايتها أمرًا ضروريًا لتعزيز مجتمع منفتح وشامل، يمكن للأفراد فيه التعبير عن أنفسهم بحرية، والوصول إلى المعلومات، وانتقاد السلطة، وممارسة المعارضة السلمية دون خوفٍ، والمشاركة في الاقتصاد الرقمي دون تمييز.