بين نعومة الموت وعنف القتل
يبدو الموت أمّ اليقينيات وليس استعارة، فهو أعظم فزاعة لا تُفزع الإنسان الذي يتعايش مع موته باعتباره حدوده، تلك (الحدود) التي لا تمنعه من أيّة إرادة حياة واقتدار نشيطة وسكن سياسي وأخلاقي واقتصادي وجمالي في العالم. ويبدو أنّ الحيوان البشري هو أعلم الكائنات بالنهايات، ولكنه يقاوم موته بالنسيان النشيط، وبكلّ الوجبات الوجودية من دين وفن.. باعتبارها أدوات للتفاوض مع حقيقة الفناء، على الرغم من أنّ البشرية أصبحت تؤرخ لميتاتها، بل تصنعها، لتنتقل بذلك، من براديغم الموت المسلّم به أنطولوجياً، إلى القتل كمشكل سياسي، يحوّل فكرة الموت إلى تجربة مرعبة.
سيواصل الموت أخذ أجزاء من أنفسنا بلا أيّ اكتراث سيكولوجي لموقع هذا الجزء في حياة الباقين منّا، إذ ليست الروح من تنفصل عن الأجساد، بل إنّ الأرواح الصديقة هي التي تنفصل حين الموت، وتترك وراءها عالماً يختفي وراء أنظارها، وآلاما عابرة، أو غائرة، لن تزيدها السطور والكتابات حول الموتى، إلا تثبيتاً على ظهر الذاكرة، ذاكرة الافتراقات والانفصالات. وما دمنا ننتمي إلى إنسان الذاكرة، فسنكتب عن الموتى، فهل نكتبكم أيها المهاجرون إلى ما فوق الحياة في باب الوضع البشري التراجيدي على الأرض؟ أم ندرجكم في مفهوم العنف الذي سطا على حياتنا؟ أم نستدعيكم في محور الأخلاق التي تاهت عنا؟ هل نضمّد أثركم بجرعة ميتافيزيقية مسكنة؟ أم نؤّرخ لميتاتكم في خدشة من الخدوش الموّثقة على ظهر الإنسانية الحالية؟ وأيّة إنسانية تلك التي تدرّب الشباب على إضاعة أعمارهم، وتجعل من بعضهم أجسادا كمينة لإنهاء صلاحية حياة آخرين في ضرب من العنف العدمي الذي يسطو على هذا الزمان، والذي تحوّلت في نطاقه الأجساد إلى آلات قاتلة، تغتصب الحيوات بتوجيه من فكر من حاز لنفسه جهاز القتل واستولى على سلطة الحياة والموت بما يشبه ضرباً من التألّه؟
ثمّة استيلاء فظيع على مساحة الآخرين وحقهم في منطقة سكن مناسبة ومؤقتة في العالم، وفي هذه الرقعة من الحياة التي لا تملك، ولا يجب أن تملك توقيع أحد الفانين، يمكن التفاوض على تسليم الإرادات، تسليم الأجساد..، لكن تسليم الأرواح أو سلبها، تبدو مهمة إلهية متعالية عن كلّ تطفل إنساني على ملكية الأرواح الحرّة، ولا ينبغي سلبها تحت راية فكرة ما (كيفما كانت درجة تقديسها لنفسها) أو أيديولوجية ناحرة، أو سياسة قتل وتهجير قسري إلى الآخرة.
الحيوان البشري هو أعلم الكائنات بالنهايات، ولكنه يقاوم موته بالنسيان النشيط، وبكلّ الوجبات الوجودية من دين وفن... باعتبارها أدوات للتفاوض مع حقيقة الفناء
لنبدأ إذن من نداء حياة، يدعو هواة القتل ومهنيي السفك إلى الكفّ عن حرمان الأنفس من إتمام عدّتها في الحياة، لأنّ ما ينبغي العمل عليه رأساً وبإصرار، وما هو أهل للمجهود، هو إصلاح وصلح مع الروح لا سلبها! فلم لا نتفق في أنفسنا على تسليم الأرواح للأرواح! إذ الأمانات تُترك لأصحابها دون وساطات ناحرة تعبث بالأجساد التي ترحل، وتدعونا إلى أن نصمت ونصبر ونُسلّم بهجرتها تسليماً.
لا نملك إزاء الموتى إلا أن نصاحبهم بحزننا، فالحزن ضرب من المرافقة الأخلاقية والانفعالية لأمواتنا، وأن نرافقهم بأقلامنا كمرافقة فكرية واعية، بأن نؤّرخ لميتاتهم حتى لا نميتهم أكثر بالصمت. فالصمت ضرب من التواطؤ ضد أرواحهم والكلام عنهم وهم في غيبة، هو إعادة إحيائهم وإماتتهم.
إنّ فكرة الموت تجعل من كلّ صديق، كلّ قريب، وكلّ ساكن مؤقت في العالم مشروع مهاجر، مشروع فراق أبدي لن نقاومه إلا بكتابة أسطر لا تنفخ في الأرواح المهاجرة نفخاً، ولن تسمح لنا بالزجّ بها في خزانة العابرات، الممكن نسيانها أو تناسيها، بل سنزج بهم في النصوص، كسطر من نصوصنا، وسنحييهم ما دامت النصوص لا تموت لنمنحهم الحياة بالكتابة، ليس من أجلهم، بل من أجلنا نحن الأحياء.
لا ترقد يا ميت، افتح عيون الأحياء وترحم عليهم، فالحياة أضحت أكثر قسوة من هول الفناء، إلى المدى الذي يجعل من قول القسّ، هيبا، بطل عزازيل: "لماذا أخاف الموت؟ خليق بي أن أخاف من الحياة أكثر، فهي أكثر إيلاما!"، لافتة مناسبة لإشهار العصر الحالي.