بين "الاستحقاق" الإسرائيلي.. ووهم الدونية العربية!

02 يوليو 2024
+ الخط -

يتحدّث الاحتلال منذ بدء عدوانه على قطاع غزّة عن "اليوم التالي" للحرب، ورغم تمريغ أنفه في وحل غزّة منذ الأشهر الأولى، فإنّه ما زال يتشدّق بالحديث نفسه بين وقتٍ وآخر، وإن انخفضت وتيرته، ولعلّ آخر ذلك الحديث "الإسرائيلي" تصريحات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بالنيابةِ عن الاحتلال، حول السيناريوهات التي تنتظر غزّة بعد الحرب، حول احتلالها أو إحلالِ قوّةٍ إقليميةٍ أو دوليةٍ فيها، أو السيناريو الأخير (المُستبعد عندهم من باب العجرفة) أن تحكم قطاع غزّة نفسها، وأن يقودها أهلها من مقاوميها الذين دفعوا ما دفعوا لأجل إكرام هذا الشعب، وقبلها دفع الشعب ما دفع لتُواصل طريقها على طريقتها.

تستفزّني تلك النبرة المُتعالية من الاستحقاق عند الحديث عن غزّة ومستقبلها، كأنّها طفلة صغيرة يقرّرون لها مصيرها، رغم أنّها وحدها تضرب بهم المثل في الفشل والانهزام والخسارة والحسرة والنكساتِ في رمالِ القطاع، ويطير وزير الخارجية الأميركي في جولاتٍ عابرةٍ للحدود والقارات، تباحثًا حول مستقبل غزّة. يعني يأتي من أقاصي الأرض، من أميركا الشمالية إلى أطرافِ آسيا وأفريقيا، ليخبرَ العرب ماذا يفعلون في هذه الصبيّة المُشاكسة التي من صُلبهم، وكيف يؤدّبونها، وكيف يختارون لها (برعايةِ واشنطن) مستقبلًا بديلًا غير هذه السبيل الضالة التي تزعج أحباب أميركا في المنطقة، وتؤرق فتيتها المدلّلين، وحرّاسها المخلصين.

أنزعجُ وأنا أواصل بحثي عن سرّ ذلك الاستحقاق الغربي، وتلك البجاحة في الحديث عن "شؤون بلادنا"، وكيف يتجرّأ عدوّك على أن يضربك بالرصاص ويذبحك بالسكين ويمزّق أشلاءك بالبراميل المتفجّرة، ثم يمسك قلمًا وممحاةً، وكوب مياه وعصير، ويدخن سيجارته نافثًا دخانها في وجهك مع ابتسامةٍ مبتذلةٍ وقحةٍ، ثم يرسمُ لك الخريطة على طاولتك؛ هنا سنضعُ قواتٍ بريّةً، وهنا سنبني رصيفًا عائمًا، وهنا سنُشكلُ حكومةً من العشائر، وهنا ستفتح أنت المعبر ولكن في ثقبٍ آخر من الجدار يكون تحت إمرتي وبالشراكة معي، وأنت ستدخل بعض الشاحنات من الشمال لنخفّف الصداع المتزايد قليلًا، وأنت ستطبّع معي بعد قليل، وأنت طبّعت معي قبل قليل، وأنت ستؤدّي دورك في اللامبالاة، حتى لا تعود غزّة ملهمةً، تهدّد عروشنا جميعًا!

 ليست غزّة هذه "التورتة" التي يتوهمها الاحتلال وداعموه، ولن تكون إلا عبوة شواظ مُفخّخة، تتنكّر في قطعةِ حلوى

حتى وجدتها، ذلك "الاستحقاق" نابع من "الاستحمار" الذي لدينا، من "الاستحماق" لدى قصورنا، بأنّ كلّ شيءٍ يسيرُ بأمر السيد الأميركي، فتوتنا الكبير، العدوّ المخلص، والصديق الخبيث الوفيّ، البلطجي الذي نحترمه ونقدره، ومن ثم ينتقل ذلك الاستحقاق بالتبعية إلى "تل أبيب"، والحديث عن غزّة مدينةً مارقةً يتحتَّم تأديبها، وعن المقاومةِ وفصائلها بوصفها جزءًا مطموسًا من الماضي، رغم أنّها ما زالت حاضرة وبقوّة، أشدّ من ذي قبل، تلقنهم الدروس وتصنع منهم العبَر، لكنهم (بما منحه لهم السادة من دون سيادة) أصبحوا المشرف الكبير على المنطقة، "نبَطشي الزنزانة" الذي يكون غالبًا الأكثر إجرامًا، وقتّال قتلى، ليكون هو المسؤول عن كلّ شيء.

ذلك الاستحقاق الاستعلائي الاستعماري نابعٌ من ذلك الهوانِ العربي والاستغراق في الذل، وأن تصنع من عدوّك الذي كان بإمكانك مجابهته وحشًا تخاف منه، ووهمًا يكبر كلّ صباح، حتى تتحوّل إلى كائنٍ واقعٍ في غرامِ سيّده، الذي يجلده وينهبه ويسرقه، لكنه يؤمّنه على كرسي صغير منحه إياه على السفرة حول "التورتة"، فيسبّح بحمده كلّما أراد قول دعاء الطعام!

وعلى كل حال، غزّة ليست هذه "التورتة"، ولن تكون إلا عبوة شواظ مُفخّخة، تتنكّر في قطعةِ حلوى!